الثلاثاء، 21 ديسمبر 2010

الاخلاق : الخير و السعادة


الاخلاق : الخير و السعادة

إن المشاكل التي تطرحها المسائل العملية سواء في مسألة العمل وما تفتح عليه من أشكال الاغتراب و ربما حتى استغلال و استعباد, أو في المسالة السياسية وما تفتح عليه من اغتراب سياسي و من فساد يجعل المواطنة مجرد فكرة صورية أو مثال أعلى يُشرَّع له قانونيا، في مقابل ممارسة سياسية تحول المواطن إلى مستهلك و تجعل الدولة تستبد بالسيادة فتقضي على المواطنة كما السيادة في واقع العولمة الموجهة من قبل القوى الامبريالية في العالم, أو حتى في مستوى الممارسة العلمية التي تمثلها النمذجة النسقية وما تفتح عليه من تهميش لمطلب الحقيقة كقيمة معرفية و العلاقات المشبوهة بين المعرفة و السلطة, والتدخل العلمي في التركيبة الجينية للنباتات و الحيوانات و حتى الإنسان من اجل تحقيق النجاعة والمردودية...
كل هذه المشاكل و ما تطرحه من احراجات و مفارقات بالنسبة لفكر كائن يتحدد باعتباره قيمة، تجعل الفلسفة الأخلاقية اليوم، و أكثر من أي وقت مضى, ضرورة حياتية إذا ما رام الإنسان الحفاظ على إنسانيته و تحقيق كونية أصيلة تصالح بين الإنسان و الإنسان, وبين الإنسان و الطبيعة في زمن الحد الأقصى من التواصل الذي غدى هو ذاته في حاجة إلى إيتيقا تنير له السبيل الأصيل لتواصل حقيقي. إن واقع الإنسان اليوم، يعلن الحاجة الملحة لعودة الفلسفة الأخلاقية و الإيتيقية، فطلب الأخلاق يبدو متزايدا اليوم, ولكن ماذا نعني بالأخلاق وماذا نعني بالإيتيقا؟
إن كلمة إيتيقا Ethique الفرنسية من أصل يوناني، و تعني البحث عن نسق مبادئ تهدف إلى وجود خير وسعيد, في حين أن كلمة أخلاق Morale الفرنسية من أصل لاتيني، و تتحدد كنظرية في الجبر، نظرية في القانون والواجب الأخلاقي باعتباره لا مشروط و كوني. و يجب أن نلاحظ أن الإيتيقا تشهد اليوم أكثر حظوة في مقابل احتشام الاهتمام بالأخلاق. والإيتيقا اليوم تفيد عموما النظرية العقلانية حول الفعل والحياة الخيرة وبالتالي تتمثل في دراسة مشاكل القيم التي تطرحها مسائل المحيط (إيتيقا المحيط) و الممارسات الطبية (البيوايتيقا)... ذلك أن القانون الأخلاقي و الـجبر الأخلاقي يشهد اليوم تراجعا أمام الحياة الخيرة. ومن هذا المنطلق يبدو من المشروع بالنسبة إلينا أن نطرح المشكل الإيتيقي الذي يتعلق بالخير والسعادة وإذا كان الخير الأسمى هو المطلب الأساسي في الفعل الأخلاقي , ففيما يتمثّل هذا الخير الأسمى؟ هل يتمثل في الخضوع لأوامر الواجب أم في تحقيق السعادة ؟ أليس الإقرار بأن السعادة هي الخير الأسمى هو نفي لصفة الأسمى على الخير مثلما بيّن ذلك كانط؟ ألا تمثّل نسبية السعادة حاجزا يعوق توحّدها مع الخير الأسمى و بالتالي تقضي بضرورة الفصل بين الخير و السعادة و بين الأخلاقية و السعادة على أساس لا تحدد السعادة؟ و بهذا المعنى ألا يكون الخير الأسمى باعتباره الأخلاقية شرط السعادة دون أن يتماهى معها ؟ ثم كيف نعرف ما هو خير، هل يتعلق الأمر بالخيرات أي بما يريد الفرد تحقيقه لذاته آو حتى ليتقاسمه مع الآخرين؟ أم هل يتعلق الأمر بخير فعل ما سنفعل, وهو ما يحدد الفضيلة عند الرواقيين؟ أم هل يتعلق بمثال الخير، الخير في ذاته باعتباره الغاية القصوى لكل فعل ممكن مثلما ذهب إلى ذلك أفلاطون؟ و كيف يمكن أن نحدد الخير خارج علاقته بالسعادة؟ ثم قبل ذلك ما هو مصدر القيم الأخلاقية، هل هي واردة من أفق متعال أم أن الإنسان واضعها ؟
I مصدر القيم الأخلاقية:
إن القيم الأخلاقية، من الزاوية المنطقية، يمكن أن تكون صادرة إما عن كائن متعال وهو موقف شائع تربط فيه الأخلاق بالدين، موقف بينت المقاربات الموضوعية تهافته، وإما الإنسان وهو الأصل الذي يعترف به الفلاسفة و المفكرين. غير أن المفكرين والفلاسفة وإن اتفقوا على كون مصدر الأخلاق هو الإنسان فقد اختلفت رؤاهم فمنهم من اعتبره الإنسان كعقل ومنهم من اعتبره الإنسان كرغبة ومنهم من اعتبره الإنسان كمجتمع.
1) كانط: العقل:
يريد كانط أن يحدد المبدأ الأساسي لكل فعل أخلاقي أي المبدأ الصوري الذي تستمد منه القواعد الأخلاقية, فهو إذن على خلاف الفلاسفة لا يقدم نسقا أخلاقيا يضبط فيه الواجبات الأخلاقية وإنما يبحث في المبدأ الأساسي لكل فعل أخلاقي, لذلك يطرح كانط سؤال يتعلق بالمفهوم المركزي الذي تدور حوله الأخلاق ليجيب بأن الواجب هو هذا المفهوم, فالواجب عند كانط هو جوهر التجربة الأخلاقية. والواجب يمثل الجبر الأخلاقي في ذاته بقطع النظر عن تطبيقاته وعلى هذا الأساس يتحول سؤال ما هو مصدر الأخلاق؟ مع كانط إلى ما هو مصدر الواجب؟
الواجب كمفهوم يتسم بالكونية والضرورة لا يمكن أن يكون حسب كانط نتيجة للتجربة والخبرة ذلك أن الكونية والضرورة هي ميزات ما هو قبلي فالواجب عند كانط هو إذن مفهوم قبلي. كمفهوم قبلي لا يمكن أن يكون الواجب صادرا إلا على العقل، لذلك يميز كانط بين الأمر الشرطي والأمر القطعي, فالأول هو أمر يربط بين الفعل والمنفعة التي تتحقق منه وهذا يعني أن الفعل وفق الأمر الشرطي لا يكون ضروريا بصفة محضة فهو ضروري لتحقيق غاية ولذلك لا يعبر الأمر الشرطي عن الواجب باعتباره كوني وضروري. فالواجب ككوني وضروري لا يمكن أن يكون إلا أمرا قطعيا يأمر دون شرط فهو يضبط الإرادة بالقانون وهذا يعني أن الأمر القطعي وحده يمثل قاعدة أخلاقية بالنسبة لكانط.
2) دوركايم: المجتمع :
أما في المنظور السوسيولوجي فإن مصدر الواجب والأخلاق هو المجتمع، إذ ينفي دوركهايم أن يكون الواجب صادرا عن العقل أو عن الدين, فمن هذا المنظور تجد الأخلاق مصدرها في المجتمع. وتناول دوركهايم للمسألة الأخلاقية يجد منطلقه في تحليل الضمير باعتباره ملكة الحكم القيمي على أفعالنا, فالضمير يمثل صوت الواجب ويعبر عن الخاصيتين الأساسيتين للواجب:
- كون الواجب خارج عن الفرد والدليل على ذلك أن الواجب لا يتطابق في كل الحالات مع طبيعة الفرد ومزاجه.
- القهر والإلزام ( ضد كانط لأنه يفصل بين الواجب والعقاب فالقيام بالواجب لتجنب العقاب هو خضوع لأمر شرط في حين أن الواجب أمر قطعي) وهذه الميزة تظهر فينا بتأنيب الضمير عندما لا نخضع للواجب وتأنيب المحيطين بنا. ويجب أن نلاحظ أن صفة القهر والإلزام هي في الحقيقة صفة ملازمة لكل الظواهر الاجتماعية بالنسبة لدوركهايم.
الواجب بما هو خارج عن الفرد وبما هو متميز بالقهر يجد مصدره في المجتمع, فالمجتمع هو الذي وضعه فينا بالتربية والتنشئة. وهكذا يرجع دوركهايم الأخلاق كظاهرة اجتماعية إلى الضمير الجمعي وتتحدد في نهاية الأمر باعتبارها وظيفة في المجتمع , فالأخلاق تقوم بوظيفة خلق التماسك والوحدة الاجتماعية لذلك يحدد دوركهايم الخير باعتباره الأخلاق وقد تمثلت شيئا حسنا والمجتمع هو الخير باعتبار أن المجتمع حقيقة أثرى من حقيقة الفرد, إذ بالاجتماع يحقق الإنسان إنسانيته.
لكن إذا كان كانط أسس أخلاق صورية قال عنها هيجل أنها غير صالحة ولا تجعل الفعل ممكنا فإن دوركهايم قد أهمل- عندما حدد مصدر الواجب باعتباره المجتمع-التفاعل بين الوعي الفردي والوعي الاجتماعي إذ تبين لنا التجربة أن الفرد، و في كثير من الحالات، هو الذي يبادر بإرساء قيم تصبح عامة بموجب التكرار والتعود.

3) نيتشه: إرادة القوة:
الأخلاق الحق عنده تتجاوز حقل الواجب لأن الواجب هو تقنين السلوك الموجه ضد الحياة. فالإنسان عند نيتشه هو قبل كل شيء إرادة القوة لذلك يسعى إلى تفسير نشأة الأخلاق المثالية جينيالوجيا بإرجاعها إلى أصلها لكن إذا كانت الأخلاق صادرة عن إرادة القوة فكيف تكون أخلاق الفلاسفة المثاليين موجهة ضد الحياة؟
إن إرادة القوة عند نيتشه منشطرة إلى إرادة حياة وإرادة عدم وهذا الانشطار ناتج عن دينامية الرغبة ذاتها بما هي ماهية الإنسان, فالرغبة كرغبة تسعى إلى الإشباع وبالتالي تفتح على اللذة فتتحدد باعتبارها إرادة حياة، فالإشباع هو تمجيد للحياة و إقرار لها، و لكن أيضا، الرغبة كرغبة تبحث عن الإشباع تنفي موضوعها و بالتالى تفتح على الموت فتتحدد كإرادة عدم.
إرادة القوة عندما تكون في أوجها وصاعدة تناشد الحياة وتمجدها لأنها قادرة على فرض سلطانها وقوتها لكن بما أن كل قوة مآلها الضعف و بالتالي الانحطاط فان إرادة القوة الواهنة تنتج القيم والأخلاق, أخلاق الشفقة كحيلة للمحافظة على بقائها فتنقد اللذة والرغبة وتحاصرها ومن هنا تظهر حسب نيتشه نقمتها على الحياة, هذا يعني أن نيتشه يرجع كل وجود إما إلى القوة وإما إلى الضعف والضعف هو مصدر أخلاق الشفقة لذلك ينظر نيتشه لأخلاق الأقوياء, الأخلاق التي تقوم على القوة وإرادة الحياة، ذلك أن أخلاق الشفقة تمنع الإنسان من بلوغ أعلى درجات القوة و البهجة و بالتالي السعادة.
و هكذا نتبيّن اتفاق كل المقاربات الفلسفية حول اعتبار القيم جوهرية وأولية في الأخلاق, فحتى المقاربة الجينيالوجية التي طرحت قيمة القيمة ونقدت القيم انتهت إلى وضع القوة كقيمة. والفعل الأخلاقي عند الفلاسفة هو الفعل الذي يتطابق مع مبادئ الخير. لكن فيما يتمثل هذا الخير؟ في الواجب أم في السعادة؟ وما هي طبيعة العلاقة بين الخير والواجب والسعادة؟




II الخير و السعادة:
1) السعادة كواجب :
إن الأنساق الأخلاقية السابقة لكانط ترى في السعادة غاية كل فعل إنساني، فهي الخير الأسمى لذلك تسمى أخلاق أودونية. في حين يعتبر كانط أن الفعل الأخلاقي هو الفعل الذي يقوم بالواجب من أجل الواجب .فهل يعني ذلك أن القيام بالفعل من أجل تحقيق السعادة هو فعل لا أخلاقي؟
يلاحظ كانط أن السعادة بما هي حالة كمال هي مفهوم غامض لأنه يرتبط بالتجربة فالسعادة عنده هي مثل أعلى لا للعقل بل للتخيل يقوم على مبادئ خبرية فحسب. فالسعادة إذن، ليست مفهوما عقليا وترتبط برغد العيش، لذلك لا يمكن تحديدها, فرغد العيش يختلف من شخص إلى آخر بحسب خبرته وميولا ته لذاك يرى كانط أن السعادة ليست من مجال الأخلاق, فمجال الأخلاق هو مجال ما هو عقلي, كوني وضروري أي واجب. ومجال السعادة حسب كانط هو الدين لأن السعادة هي موضوع أمل و من حق الإنسان ككائن رغبة أن يأمل في أن يكون سعيدا دون أن يناقض ذلك الواجب. فما هو أولي بالنسبة لكانط هو الأخلاق الكونية ولا يهدف أي فعل في المجال العملي إلا إلى تحقيق الفضيلة باعتبارها طاعة الأمر القطعي. لكن ذلك لا يمنع من أن تكون مقولات العقل العملي مقبولة في حقل الأخلاق وهو ما يضفي مشروعية على البحث عن السعادة. يقول كانط: «الأخلاق ليست إذن نظرية تعلمنا كيف يجب أن نكون سعداء ولكن تعلمنا كيف يجب أن نكون جديرين بالسعادة, ذلك أننا لا نأمل في تحقيق السعادة إلا بتدخل الدين». وهكذا يكون البحث عن السعادة عند كانط أمرا مشروعا وواجبا في معنى ما بما أن التعاسة ليست ظرفا مناسبا للقيام بالواجب. السعادة كموضوع أمل بالنسبة لكانط لا تتحقق في الأرض و تبقى موضوع أمل مشروع ليس إلا. و هكذا يرتبط كانط الحرية بالعقل، فالإرادة الخيرة هي التي تخضع لإرادة القانون العقلاني والكوني أما الإرادة التي تخضع للرغبات الحسية فهي إرادة مرضية بالمعنى الكانطي أي لا تخرج عن تأثير الحواس, فالحرية والعقل لا ينفصلان عند كانط الذي يقول : "الحرية هي خاصية إرادة كل كائن عاقل"، وبالتالي لا تكون السعادة بالنسبة لكانط شأنا سياسيا.
2) في تضايف الخير و السعادة :
غير أن أرسطو على خلاف كانط يرى أن تحديد الخير يقتضي اعتباره من جهة كونه غاية جماعية لا فقط كغاية فردية, ذلك أن الإنسان عنده هو حيوان اجتماعي, و من هذا المنطلق تعتبر الإيتيقا بالنسبة إليه معرفة متعلقة بالفعل, و ترتبط بالخير الأسمى الذي يمثل غاية كل فعل إنساني, والخير الأسمى هو السعادة, وهكذا فإن السعادة عند أرسطو تتمثل في فعل عقلي يتحدد في التأمل كنشاط عقلي, الذي يتماهى و الفضيلة. يقول أرسطو "إذا لم تكن السعادة حقا إلا الفعل المطابق للفضيلة، فمن الطبيعي أن يكون الفعل المطابق للفضيلة التامة، أعني فضيلة الجزء الأعلى من الإنسان". وهو ما يعني أن السعادة هي نتيجة الحياة الفاضلة. وبما أن الفضيلة ترتبط بالتأمل العقلي الذي يمثل ما هو أعلى في الإنسان، فإن السعادة تتجاوز اللذة الحسية البسيطة من جهة كون اللذة مؤقتة في حين أن السعادة لا زمنية ودائمة، والتأمل العقلي هو الذي يحقق ثباتها دوامها. وبالتالي فإن الحكيم الذي يتأمل الخالد في حياة رفاه يجسد الإنسان السعيد. وهذا الموقف الأرسطي ينخرط في التصور الإغريقي الأودوني Edémoniste الذي يقر بأن السعادة هي غاية كل فعل، وتتحدد السعادة باعتبارها تطابق بين الإنسان ونظام الطبيعة. ولكن يجب أن نلاحظ أن أرسطو يربط بشكل صريح البحث عن السعادة بالتنظيم العقلاني للحياة الاجتماعية. فالإيتيقا ترتبط بالسياسة، وخير الفرد يتوقف على الخير الأسمى للمدينة وبالتالي للدولة. وبما أن السعادة هي مثال أعلى وهدف، فإنه من الضروري تعميمها وأنسنتها وبالتالي تسييس البحث عن السعادة.
تلك هي أيضا وجهة نظر الموقف النفعي. ذلك أن اشباع اللذات لا يقود إلى السعادة إلا في إطار المصلحة العامة. والنفعية هي موقف جيريمي بنتام Jeremy Bentham الذي انتهى إلى تجريد القيم الأخلاقية من كل أساس مرجعي متعال، بما أن المبدأ الأخلاقي الوحيد عنده هو مبدأ المنفعة بمدلولها الخاص و الفردي. و رغم تأكيده على دور الدولة في ضمان النفع لأكبر عدد من الأفراد، فإن بنتام يخلص إلى أنه يجب على الفرد أن يتحقق من المنفعة التي تعود عليه هو ذاته من الفعل قبل أن يقوم به. ومن هذا المنظور المادي يذهب بنتام إلى التأسيس "لعلم حساب اللذة والآلام"، قاصدا أن يكون معيارا لقياس السلوك الأخلاقي والعملي قياسا كميا. وبما أن المبدئية الأخلاقية هي المنفعة، فقد كان لازما على هذا العلم أن يؤسس لطريقة تمكن من قياس اللذة، تلك التي يصنفها بنتام إلى نوعين "متجانسة" و"غير متجانسة ويحرص بنتام على التأكيد على أن مقياس الكم قابل لقياس ما يسميه باللذات المتجانسة، غير أنه عندما يبحث اللذات غير المتجانسة، كلذة القراءة مثلا وغيرها فإنه اعترف بصعوبة حسابها كميا. لذا نجده يبحث عن مقياس آخر يقاربها به والمقياس البديل الذي وضعه لا يخرج عن الرؤية الكمية النفعية التي تحكم منظوره ككل؛ ذلك أنه رأى أن هذه اللذات غير المتجانسة يمكن قياسها بـالمال أي أنه يجب على الفرد أن يقيس تلك اللذة بمقدار ما يصرفه من مال لتحصيلها، فإذا كان المبلغ المالي الذي تحتاجه مكلفا يجب أن يعرض عنها إلى لذة أقل منها كلفة.
و جون ستيوارت ميل John Stuart Mill، الذي يحدّد السعادة من زاوية مادية وجماعية، والذي يستعمل مفهوم الخير باعتباره مجموع الخيرات التي يمكن الحصول عليها يسير في نفس اتجاه بنتام عندما أقر : "نعني بالمنفعة امتلاك أي شيء ننحو بفضله إلى تحقيق مصلحة، مكسب، لذة، خيرا او السعادة". وهو موقف غير بعيد على التصور الابيقوري، الذي يحدّد السعادة باعتبارها اللذة وغياب الالم تماما مثل التعاسة باعتبارها "الالم والحرمان من اللذة". إذ يعتبر أبيقور أن اللذة هي بداية الحياة السعيدة وغايتها فهي الخير الأول ومعيار الخير, فاللذة عنده هي إذن شرط الخير والخير شرط السعادة لكن بالتوازي اللذة هي الخير وهي السعادة بما أنها طبيعية في الإنسان. لكن عندما يعتبر أبيقور أن اللذة هي الخير لا يجعل من اللذة غاية كل فعل أخلاقي أي أنه رغم كونه يعتبر اللذة هي الخير الأول لا يقدم نظرية هيدونية لأنه يقدم اقتصادا كاملا في اللذة. فنحن لا نبحث عن اللذة إلا لندفع الألم لذلك فالسعادة عند أبيقور لا ترتبط باللذة الحسية فحسب وإنما تقتضي الحكمة التي توجهنا في إشباع اللذات.الحكمة واللذة هي طريق للسعادة التي تمثل عند أبيقور حالة تتميز بغياب الألم وبالتالي بغياب اللذة يسميها الأتراكسيا..
3) السعادة و الرفاه :
إن ما يجعل السعادة مثال أعلى، بالنسبة للنفعية، هو كونها مقصودة وفق إستراتيجيا جماعية و كونها ترتكز على الاعتقاد في التقدم التقني و الاقتصادي. ذلك أن تفاؤل فلاسفة الأنوار، جعلهم يربطون السعادة بتطور المعرفة و الذكاء الإنساني، تفاؤل يجد في إقرار روسو بخيرية الإنسان سندا له، مما جعل روسو يؤكد في كتابه «إيميل» على دور التربية في تحقيق سعادة الطفل، إذ ينادي روسو بضرورة ترك الطفل يتطور وفق طبيعته الخيرة. وهو ما يؤكد أن السعادة هي أساسا مثال أعلى، فكرة، شيء علينا تحقيقه لا فقط بالنسبة للأفراد بل لكل الناس، و من هنا بالذات يحصل الانزلاق الذي يجعلنا نتحول من الإنسانية إلى النفعية كما تجلت عند بنتام وميل، ثم إلى المادية الصرفة و الفردانية التي غدت فيها السعادة اليوم مرادفة للرفاه.
فأن نعتبر الخير كمجموع الخيرات التي يمكن الحصول عليها، و أن يبحث كل فرد عن أكثر لذة و أقل عناء، هو أن نعتبر سعادة الفرد جزءا من الرفاهة العامة. ذلك أن النفعية تتحدث عن السعادة في المستوى الاجتماعي، و بالتالي السعادة لكل الناس رغم كونها تختزل الخير في النافع. فالنافع هو ما يمكن من تحقيق الخير، وهو مفهوم سبق أن تحدث عنه أبيكتات و حتى سبينوزا، فالحكيم الرواقي يبحث عن النافع. غير أن النافع عند إبيكتات كما عند سبينوزا لا يرتبط بما هو مادي، في حين ننظر اليوم إلى النافع باعتباره نافعا ماديا. ذلك أنه بالنسبة للنفعية، لكي تكون السعادة شيئا يمكن توزيعه بطريقة عادلة بين الناس، يجب أن تكون مادية، فلكي تكون قابلة للقسمة يجب أن تكون قابلة للقياس، و بالتالي تتماهى السعادة مع الرفاه في المجتمعات الاستهلاكية.
4) في تجاوز النفعية و سعادة الرفاه :
إن الفردانية ليست فقط واقع ولكنها أيضا مثال أعلى، وإتباع حاجات الفرد كعنصر في المجتمع ليست فقط أمرا مقترحا بل يقدم كخير مطلق. فالمجتمع الاستهلاكي ليس فقط مادي، وذو نزعة مادية لأنه يكرس خطابا يسعى من خلاله لإقناع كلّ الأفراد، بل انه مثالي بطريقته، بما انه يقدم الرفاه كمثال أعلى، رفاه فردي ولكن رفاه فردي لكلّ الناس. وخطاب السوق هذا، ككل خطاب أيديولوجي، يزعم انه يقدم أجوبة لكل التساؤلات. وحول السؤال الذي قد يطرحه كلّ واحد منا: ما السعادة؟ يجيب يجتمع مجتمع السوق بدلا عنا. وإجابة المجتمع الاستهلاكي تقدم لنا مثالي السعادة كرفاه، وبهذه الكيفية يكون لكلّ الناس نفس مثالي السعادة. في حين أن كانط عندما أقرّ بان السعادة هي مثال أعلى للتخيل، كان يؤكّد على كون السعادة شأن شخصي. ولا يجب بالتالي أن نخلط بين تحقيق الرفاه وتحقيق السعادة. ثم إن المجتمع الاستهلاكي عندما يقدم مثال أعلى للسعادة الفردية كرفاه، ينولّد عن ذلك اغتراب الأفراد بالنسبة للاجتماعي، إذ يصبح لهم نفس المثالي الشخصي. والمجتمع الاستهلاكي الذي يدفعنا للفردانية، يدفعنا جميعا كالقطيع، وهذا النوع من الفردانية ليس مرادفا بالضرورة للتسيير الذاتي وللحرية.
لذلك لابدّ من مراجعة طرح مسألة السعادة، بالعودة أولا إلى الفصل بين الايتيقيا والأخلاق، إذ لماذا تكون السعادة مسألة ايتيقية؟ لماذا علينا أن نختار بين أخلاق واجب وإيتيقا سعادة؟ لماذا لا يمكن التفكير فيهما معا؟ وبالتالي المصالحة بين الواجب والسعادة، بين الحرية وبالتالي الفردانية الحقة والخضوع للجبر الأخلاقي من جهة كونه طريق الكونية والإنسانية.
إن السعادة تطرح باعتبارها مثال أعلى وبالتالي لا كشيء معيش، وذلك ليس غريب بما أن السعادة تتحدّد كحالة إشباع كامل ومتواصل في الزمن، و كحالة اكتمال لا يمكن أن تكون السعادة شيئا معاشا، ولكن مع ذلك لا يجب الزهد في طلبها مثلما بين ذلك فرويد. إن السعادة هي حالة الرضاء التام والامتلاء لذلك تختلف عن اللذة التي هي رغد مستحب من طبيعة حسية. وإذا كانت السعادة تعني راحة تامة وتتقدم باعتبارها الخلود ذاته فإن اللذة زمانية فهي حركة ودينامية قد تطيلها وتضخمها الذاكرة والخيال, لكن السعادة تختلف أيضا عن الفرح ففي حين أن اللذة مجزأة فإن الفرح هو حالة وجدانية إجمالية إذ تمثل كما بين ذلك سبينوزا التحول من حالة كمال منقوصة إلى حالة أرفع منها, حالة تزيد فيها قوة فعل الجسد,أما السعادة فإنها ليست تحولا فالفرح ديناميكي في حين أن السعادة ستاتيكية فالسعادة التامة تبدو إذن مسألة يصعب تحقيقها رغم كون الأنساق الهيدونية كانت تقدم طرائق يفترض أنها تحقق السعادة كذلك الشأن الأبيقورية مثلا. و إذا كانت السعادة هي حالة الإشباع التام لكل الرغبات فإن ذلك يعني أن سبيل تحقيقها هو القضاء على كل ألم وإذا كان أبيقور ينظّر في أخلاقه إلى طرق تمكن من تجاوز الألم حتى وإذا كان ذلك بطريقة واهمة عبر الخيال والتخيل والتذكر فإن فرويد ينفي ذلك إذ يبدو أن الألم يتمادى مع الوجود الإنساني، إذ يجد مصدره في قوة الطبيعة وشيخوخة الجسد بل حتى في سلاح الإنسان ضد هذين المصدرين أي الحضارة, فالألم إذن يوجد في التركيبة النفسية للإنسان لكن إذا كان الألم متماد مع الوجود الإنساني فإن ذلك لا يجب أن يؤدي بنا إلى الزهد في الحياة وفي طلب السعادة إذ يبدو حسب روسو أن سعادة الإنسان لا تتحقق في السكينة التامة واستكمال الملذات بل تتحقق بالمكابدة والمجاهدة لأن الحياة التامة التي تتحقق فيها كل آمالنا و أحلامنا تعني الموت لأننا عندها نكون محرومين من لذة الرغبة.
و هكذا يمكن القول أنه، وفي مقابل السعادة، يتقدم الفرح كشيء معيش. وبالتالي كحالة ديناميكية غير ستاتيكية مثلما هو شأن السعادة. ولعلّ تفكير سبينوزا في الفرح وعلاقته بالمعرفة يمكننا من الجمع بين الواجب والسعادة فالمعرفة هي مجال الحرية الحقة بالنسبة إلى سبينوزا، والفعل الحسن عند سبينوزا هو البحث عما يسميه بالنافع الخاص، ولا يتعلق الأمر بالخيرات الخبرية التي تؤدي إلى الاغتراب مثل اللذة والشرف والثراء، بل على العكس من ذلك النافع الخاص يزيد من قوة فعل الفرد وقوة فعل المجموعة، والعقل هو الذي يحدّد هذا النافع الخاص، إذ المعرفة هي التي تمكن الفرد من أن يحقق ذاته بحسب رغبته، فالإنسان الحر حسب سبينوزا هو من يرغب في الخير. يقول سبينوزا "إن الإنسان الحر يرغب في العقل، في الحياة، في المحافظة على كيانه على أساس البحث عن النافع الخاص، هو ذاك الذي لا يفكر في الموت بل إن حكمته هي تأمل في الحياة"، وهذا الوجود الحر والسعيد والعقلاني هو جائزته، وليس هو نتيجة حساب، انه التعبير من الفرد ذاته عندما يحقق ذاته ذلك أن "الغبطة ليست جائزة الفضيلة ولكن الفضيلة ذاتها، ونحن لا نعيش الفرح لأننا نمنع رغباتنا الحسية، بل عكس ذلك لأننا نعيش الفرح نستطيع منع هذه الرغبات" والغبطة باعتبارها أرقى درجات الفرح تتقدم كحكمة ثابتة، والإنسان الحر يحقق الغبطة لأنه يحقق كمال ذاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق