الأحد، 19 ديسمبر 2010

الخصوصية والكونية


الخصوصية والكونية
الآخر – الاختلاف – التواصل – الصورة- المقدس – الهوية

 ما الذي يبرّر التفكير في مسألة الخصوصية والكونية؟
يمكن القول أن التعامل الفلسفي مع إشكالية الخصوصية والكونية يستوجب منذ البدء توسيع مجال البحث الأنطولوجي في مسألة الإنية والغيرية إلي مجال أنثروپولوجي فنستبدل بذلك ثنائيــة”الأنا“ و”الأنت“ بثنائية” النحن“ و”الهم“ طارحين بذلك علاقات الثقافات فيما بينها من جهة التوتر المنشئ لصراع الحضارات والتواتر الداعي لحوار الثقافات قصد تأسيس حد أدني من التواصل بين الملل والنحل في زمن عولمة الاقتصاد وعولمة الرمز وعولمة المشهد وعولمة النموذج الداعي دائما إلى تجاوز الخصوصيات وإغتراب الهويات الشيء الذي دفع بالبعض إلى الإعلان المبكر عن نهاية التاريخ في حين ذهب البعض الآخر إلى إعلان بداية جديدة لتاريخ إنسان الهوية المركبة المتجاوز لنظريات التطور الكلاسيكية القائمة أساسا على رصد التحولات البيولوجية بطرح نظرية الطفرة الثقافية المنادية بكونية القيم وكونية المشهد العالمي الجديد لحضارة الإنسان كوحدة لكثرة مزعومة.
يقتضي التفكير في إشكاليات العلاقة بين الخصوصية والكونية  منهجيا التساؤل عن دلالة الخصوصية ومقوّماتها.
تحيل الخصوصية على معنى الهوية، على ما هو جوهري وثابت وأصيل ومميز لمجتمع ما أو لأمة أو للنحن الثقافي، لكن هل ينبغي النظر إلى الهوية من جهة اعتبارها مقولة منطقية[منطق الهو الهو، أو الهو عينه] أم من جهة اعتبارها ما يتحقق تاريخيا وما تقتضيه التاريخية من حركة و تغاير وتحول و كسب؟ سؤال الثابت والمتحوّل يحيلنا على سؤال الهوية من جديد من جهة الحق ومن جهة الواقع، أعني هل هي كيان بسيط أم كيان مركب؟ بلغة أخرى هل ترد جذور الهوية إلى ثقافة واحدة منغلقة على ذاتها متأصلة في عمقها أم أنّ جذورها متعددة وأصالتها تستمد من أصالة انفتاحها وقدرتها على التأثر بالتاريخ والتأثير فيه من ناحية ومن قدرتها على الإبداع والتجديد من ناحية أخرى؟
 يتولّد عن التسليم بأن الهوية بسيطة أو جوهر بسيط، الدفاع عن الخصوصية، وباسم هذه الخصوصية ندافع عن انغلاق الهوية الثقافية على مختلف الثقافات، إذ باسم ذات الانغلاق ننظر إلى كلّ ما هو آت من ثقافة أخرى على أنّه غريب وغيرية تتهددنا، ينبغي رفضها وإقامة جدار عازل يحول دونها والتأثير فينا أو غزونا خشية تحوّلنا عمّا نحن عليه، أي خشية أن نفقد مقوماتنا فنفقد هويتنا أو نعيش أزمة هوية.
ولا شك أنّ من بين أهم استتباعات مثل هذا الموقف القائل بالانغلاق دفاعا عن الخصوصية رفض كلّ تواصل مع الآخر وإحلال العنف محلّه بما يعنيه من يأس من الإنساني أو إدّعاء احتكاره وإدّعاء الأفضلية والاعتراف بضرب واحد من التعامل يحكمه منطق الصراع أو الصدام  ويترجم عن قداسة الهوية وحيويتها وما تستوجبه من خوض مغامرة الحياة حفاظا عليها.
 أمّا إذا افترضنا الطابع المركّب للهوية أي هوية تتحدد على ضوء عوامل مختلفة ومتعددة، فإنّ الكونية قد تفهم بما هي أفق الخصوصية، فبأي معنى نفهم الكونية بما هي أفق للخصوصية؟ وهل يعني ذلك إمكان تجاوز القول بالكونية بما هي نفي للخصوصيات؟ لكن ما دلالة الكوني وما مشروعية القول بالكوني أو الدفاع عنه؟
يفترض الحديث عن الكوني التساؤل عن علاقته بالكلي؟
يمكننا المجازفة بالتمييز بين الكوني والكلي من جهة اعتبار الكلي ما يفيد المنطقي المعرفي أو الابستيمي عموما، أما الكوني فيحيل على سجل قيمي.
لكن ألا يمكننا أن نقارب الكوني من نماذج تفكير مختلف كأن نقاربه من جهة الطبيعة ومن جهة الوظيفة؟ فعلى مستوى الطبيعة يحيل الكوني على ماهية ثابتة، على ما هو نوعي في الإنسان وعلى ما هو مشترك بين البشر، أو ما يوحد الجنس البشري.
أمّا على مستوى الوظيفة يمكننا أن نعتبر الفكر كما الكلام الوظيفة النوعية للإنسان أي مجال الكوني، دون أن ينفي هذا الذي نعتبره كونيا الخصوصية، فإذا كانت اللغة خاصية نوعية وكلية فإنّ الألسن متعددة، وإذا كان الفكر مجال الكلي فإن تفكيرنا مختلف وإذا كان الرمز مجال الكوني فإن الرموز تختلف صورها وتتعدد دلالتها، وإذا كان المقدس حاضرا في كلّ المجتمعات فإنّ صورته وفعله وفعاليته تختلف. وهو ما يحيلنا على النظر إلى الخصوصي بما هو فضاء الثقـافـات [الكثرة] أما الكوني فيحيل على فضاء الحضارة[الوحدة]، وأنّ الإنساني لا يستقيم ما لم نأخذ مأخذ الجدّ واقع الكثرة في الخصوصيات دون نفي الوحدة التي يعبر عنها الكوني.
على ضوء هذا القول ألا يبدو استشكال العلاقة بين الخصوصي والكوني مفتعلا ولا مبرر له؟ ألا تبدو العلاقة من البداهة بحيث لا تثير من جهة المفهوم إحراجا طالما أنّ علاقة الكل بالجزء والعام بالخاص، والوحدة بالكثرة علاقة تضمن بديهية، فلم إثارة مشكل يبدو لا وجود له إلا بصورة وهمية؟
يبدو أنّ الواقع الإنساني بما يتضمنه من تناقضات هو  ما يثير مشكل العلاقة هذا .فالكوني من جهة الواقع ليس بمثل النقاء الذي نصوره من جهة المفهوم وهو ما يدفعنا لإثارة علاقة الكوني بالإيديولوجي وبالإيتيقي، فأي معنى للكوني إذا ما قاربناه إيديولوجيا؟ وأي معنى له في دلالته الإيتيقية؟
يفهم الكوني الإيديولوجي بما هو كوني هيمنة، هيمنة تتخذ من الكوني أداة لتحقيق الهيمنة، ليتحرك الكوني بذلك ضمن أفق العقل الأداتي، أو الحسابي، أفق المصلحة بدل الحقيقة أفق النجاعة بدل القيم، وهو ما يتجلّى واقعا، في العولمة التي تبشر بالوحدة على حساب الكثرة، وباسم الوحدة تتلف الخصوصيات، وهو ما يؤشر على أزمة تواصل، إذ بقدر ما تشتد أساليب الهيمنة العولمية أو الكوني العولمي بقدر ما تشتد مقاومة الخصوصيات وتشتد مبررات انغلاقها، ليتحوّل الدفاع عن الخصوصية مواجهة للهيمنة، بما تعنيه المواجهة من سيادة منطق الصراع والصدام، وغلبة منطق القوة واللامعقول،وحلول لغة العنف بدل لغة الحوار، ألا ينبغي أن يفهم من هذا أنّ الدفاع عن الخصوصية لا ينبغي أن يحمل على معنى رفض الكوني وإنما رفض الكوني الهيمني أو كوني الموت دفاعا عن كوني الحياة أو كوني كلية الإنسان ووجوده النوعي؟
يفهم كوني الحياة بما هو كوني مبدع خلاّق منفتح تميزه قوى الفعل لا قوى الانفعال أو هو كوني إيتيقي، ألا يحيلنا الزوج فعل/انفعال إلى رفض منطق الانغلاق؟ فالثقافة الميتة هي التي تخشى الالتقاء بالآخر والتفاعل معه، أما الثقافة الحية فهي التي تملك القدرة على اللقاء بالآخر دون أن يكون هذا اللقاء قاتلا. أليس الكوني في معناه الإيتيقي ما به نعيش على حدة [خصوصية] ومعا [كونية] ؟ أليس كوني الحياة هو أن يحافظ كلّ منا على خصوصيته دون نفي للآخر ونفي حقه في أن يعيش خصوصيته؟ ودون رفض الوقوف على أرض مشتركة قوامها قيم كونية ينبغي احترامها والدفاع عنها [الكرامة الإنسانية ] ومشاكل كونية تجمع الإنسانية في همّ واحد ومصير واحد؟
قد تختلف صور الثقافات، وقد تتعدد نظم عيشها، وهو تعدد لا يشرع لأحد الحكم على الآخر بالوحشية أو التخلف أو إعدام حقه في الاختلاف؟ تعدد يدفعنا إلى النظر إلى الاختلاف بما هو علامة ثراء لنبقيه اختلافا نستمد منه ما به ومن أجله نتواصل شريطة التمييز بين فعل تواصلي وآخر استراتيجي، تمييزا يصب في اتجاه إنقاذ الكوني من الكوني أو إنقاذ أنفسنا من كوني طلبا للكوني.
لكن قبل ذلك ونظرا لخصوصية المسألة، يجب التسلح وكما يقول ڤاستون باشلار ب«حاسة وضع الأسئلة»-
فماذا نعني بمفهوم الثقافة؟وماهي خصوصية الخصوصية؟وأية هوية يمكن رصدها لمفهوم الهوية؟وما هو وضع الهوية بين التقوقع والانفتاح؟ وهل أن الكونية تحقيق للخصوصية أم طمس لها؟وماهي رهانات الكونية؟
1-    مفهوم الثقافة:
يعتبر مفهوم الثقافة من أكثر المفاهيم اللصيقة لمفهوم الإنسان نظرا لأنه الكائن الوحيد من بين بقية الكائنات الذي استطاع تحوير وجوده الطبيعي وترجمته إلى وجود رمزي عن طريق ابتداعه للغة والفن والدين والأسطورة والى وجود اصطناعي قائم على منظومة الأدوات التي استعملها الإنسان البدائي وطورها الإنسان المعاصر تأقلما مع منطق الحاجة التي هي أم الاختراع فحاجة الإنسان البدائي إلى التوقي من حر الصيف وقر الشتاء مثلا هي التي كانت وراء ابتداعه للباس الذي اختلف من ثقافة إلى أخرى  ،لذلك يمكن فهم هذا المصطلح على انه كل إضافة قام بها الإنسان للطبيعة وكل مجهود رمزي أو جمالي أو معرفي أو تقني حاول به الإنسان التواصل مع الآخرين أو تطوير وجوده البدائي من الوحشية إلى المدنية والحضارة عبر التاريخ .غير أن الإنسان لم يعرف ثقافة وحيدة وكل ثقافة لأي شعب من الشعوب مهما كانت درجة تأخره أو تقدمه ما تنفك تتطور إما بفعل داخلي نابع من تجارب الشعوب أو بفعل خارجي قائم أساسا على مبدأ المثاقفة الذي هو تأثر الثقافات فيما بينها ؛غير أن اكتشاف نظرية المثاقفة لم يتبلور بشكل جدي إلا في القرن التاسع عشر مع نشأة علوم بأسرها قامت أساسا للبحث في الثقافات ولدراسة الاختلافات بين الشعوب مثل إلإتنولوجيا والإتنوغرافيا والأنثروپولوجيا .

2 – الثقافة والخصوصية:
إذا ما اعتمدنا تعريف الثقافة الذي صاغه إدوارد بيرنات تايلور[Edward  burnett  Tylor] في كتابه ”الحضارة البدائية“ الصادر سنة 1871 الذي يعتبرها «هذا الكل المعقد الذي يحتوي على المعارف والاعتقادات والفن والأخلاق والقانون والتقاليد وكل الاستعدادات والعادات التي يكتسبها الإنسان بما هو عضو داخل مجتمع…» يمكن أن نعرف الثقافة بأنها خصوصية الفرد وخصوصية المجتمع الذي ينسب إليها باعتبار أن الخصوصية من حيث الاصطلاح هي التميز عن البقية أي التفرد بشيء لا يمتلكه الآخرون فاللغة مثلا أو اللهجة أو الانتساب الديني أو الممارسات الطقوسية أو عادات بعض المجتمعات وآدابهم هي بمثابة أنظمة رمزية لا توجد إلا لديهم  لذلك تعتبر خصوصيتهم الخاصة بهم وهويتهم الثقافية التي توارثها ذلك المجتمع وساهم في ابتداعها وتطويرها تاريخيا،ومن هذا المنطلق يمكننا أن نكتشف أن الخصوصية كانتساب رمزي متعدد الأبعاد لمدونة ثقافية معينة هي امتداد لهوية الفرد التي لم تعد تفهم فهما سطحيا متعلقا بالتثبت إن كان اسمه مستعارا أم حقيقيا بل أصبح هاجس البحث عن الهوية هو هاجس التنقيب الجاد عن الجذور الحضارية والانتماءات الرمزية الكامنة بطريقة لاواعية في الخلفية الثقافية للفرد .غير أن مبحث الخصوصيات وهاجس الهويات الإتنية قد تحول في بداية القرن العشرين إلى مبحث استعماري عنصري قائم على التفرقة بين الأعراق وافتراض أفضلية شعوب على شعوب أخرى بسبب الخصوصيات المختلفة والهويات الهجينة  ونذكر على سبيل المثال الحملات النازية التي سعت إلى تنقية الجنس الآري وشن حملات إقصاء وتهميش استهدفت الآخر وعملت على إبادته فهل يشرع الاختلاف الثقافي والانتماء الحضاري المتباين  إقصاء الخصوصيات الأخرى؟  هل يحق لبعض التصورات الدفاع عن مشروع الإتنية المركزية أم أن هذه الأفكار لاتعد إلا أوهاما سياسية واختيارات إيديولوجية لم تفهم بعد الهوية الحقيقية للهويات التي هي في واقع الأمر هويات مركبة وخصوصيات مستلهمة من نماذج بيثقافية متباينة ومستندة إلى نفس البنى المنطقية تقريبا ؟
3 -الهوية الثقافية بين الكثرة والوحدة:
يعتقد البعض أن الخصوصية بما هي مكون من  مكونات الهوية الفردية أو الجماعية  هي معطى ثابت لايتغير وغير قابل للتطور وذلك بفهم الهوية استنادا لظرفية زمكانية وتاريخية واجتماعية أي بالنظر إليها ضمن وضعية معينه غالبا ما تكون قابلة للتغير بمرور الزمن وبفعل العديد من المؤثرات  فهوية الطفل مثلا تتغير بتغير سنه من الطفولة إلى المراهقة إلى الشباب إلى الكهولة ثم إلى الشيخوخة كما يمكن أن تتغير بتغير مستواه العلمي من الأمية إلى المعرفة التي هي بدورها تتغير بتغير درجاتها والهوية المنتسبة إلى انتماء رمزي أو إيديولوجي معين يمكن أن تتغير بتغير معتقدات أصحابها وكذلك الشأن بالنسبة للهويات الثقافية التي يمكن أن تتجاوز الإطار البسيط لها لتصبح هوية مركبة على حد تعبير إيدغار موران، وذلك بفعل الإنفتاح على الثقافات الأخرى واستيراد أنماط سلوكية وفكرية ورمزية مختلفة عن الهوية الأم لذلك دأب علماء الانتروپولوجا على دراسة التفاعل الثقافي والحضاري بين الشعوب ورصد انتشار الثقافات أو بعض الأنظمة الخصوصية على مستوى كوني ؛ومن رواد هذه المدرسة الانتشارية [le diffusionnisme] نذكر الباحث الأمريكي ذو الأصل الألماني ” فرانز بواس“ [Franz boas](1942-1858) الذي قام بالعديد من البعثات الأنتروپولوجية الدارسة للعلاقات الممكنة بين الثقافات لعل أهمها : بعثة شمال المحيط الهادي [jesup north pacifique] التي اكتشف خلالها وجود علاقات ثقافية بين ثقافات شمال آسيا  وثقافات الشمال الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية على مستوى اللباس والطقوس والعادات والطباع المشتركة وضمن محاولته تحليل ذلك اعد المسالة إلى التجاور الجغرافي الذي يجعل من اللقاء الثقافي أمرا ممكنا وحتميا الشيء الذي يكون وراء استيراد وتصدير الخصوصية الثقافية لكلا الشعبين، وإذا قمنا بتعميم الظاهرة تصبح المسألة مؤدية إلى القول بأن كل ثقافة هي في الأخير مزيج لعديد من الثقافات التي أثرت فيها تاريخيا الشيء الذي جعله يكتشف مفهوم النسبية الثقافية ويرفض الأفكار المنادية بالإتنية المركزية القائلة بأفضلية عرق على عرق آخر وبحضارة على حضارة أخرى…
لقد حاول هذا الباحث اكتشاف الكثرة ضمن الوحدة الظاهرة للثقافات فكانت أعماله ملهمة للعديد من الدراسات الإنسانية مثل اللسانيات التي حاولت دراسة كيفية دخول مصطلحات ثقافة ضمن ثقافة أخرى وعمليات استيراد المفاهيم والتمفصلات اللغوية التي يمكن أن تؤدي في بعض الأحيان إلى ابتداع أنظمة لغوية جديدة واشتقاق لسان من لسان آخر.
غير أن أعمال كلود ليفي-شتراوس[Claude Lévi-Strauss] قد حاولت النظر إلى المسألة من منظور آخر باحث في ما هو مشترك بين الثقافات وما يمكن أن يؤسس وحدة إنسانية تكون قاسما مشتركا لجميع الثقافات مهما اختلف مستوى تحضرها ومستوى عقلانيتها وطبيعة وعيها سواء كان وعيا إحيائيا يحاول رؤية العالم رؤية أسطورية أنثروپومورفية(نزعة تعطي خصائصا إنسانية للظواهر الطبيعية) أو وعيا علميا متوسلا بالتقنية وبآخر مستجدات الإكتشافات العلمية ؛هذا وقد استلهم هذا الأخير منهج الانثروپولوجيا البنيوية من ما توصلت إليه اللسانيات من خلال تطبيقها للمنهج البنيوي الدارس للبنى التي تحكم اللغات وللهياكل المشتركة بينها مثل اشتراك جميع اللغات في البنية النحوية والصرفية والتركيبية وان اختلفت الألسن ،لذلك كانت أعماله عبارة عن حفر في الأسس الخلفية للثقافات ضمن الاشتغال على بنى معينة مثل القرابة والأسطورة وقد أدت دراساته الإتنوغرافية على قبائل” ماتو ڤروسو“[mato grosso] وقبائل الأمازون والدراسات التي أجراها على هنود البرازيل وخاصة على أنظمة القرابة وعلى ظاهرة زواج المحارم[l'inceste] إلى اكتشاف أن هذا النوع من الزواج يكاد يكون منعدما في جميع الثقافات تقريبا باستثناء الأسرة الفرعونية في مصر القديمة حيث كان الفراعنة يقبلون بذلك حفاظا على نقاء الدم الملكي المنحدر حسب اعتقادهم من أصل إلهي ؛  كما أدت دراسته للبنى الأسطورية بين شعوب العالم إلى اكتشاف علاقة التمثلات الأسطورية في جميع الثقافات بالبنى الواقعية الاجتماعية حيث نجد مثلا اعتماد الأماكن الموجودة في الرقعة التي ينتمي إليها الشعب وأسماء الأشخاص والتراتبية الاجتماعية المحلية في كل الأساطير تقريبا الشيء الذي يعكس أن البدائي يفكر بنفس طريقة المتحضر وما الفرق بينهما إلا فرقا في الظروف الاجتماعية والإقتصادية التي أحاطت بكليهما وأسهمت في ترقي المتحضر وبقاء البدائي في نفس المرتبة لذلك أكد في كتاب ”العرق والتاريخ“ رفضه للنظريات العنصرية مثل نظرية” ڤوبينو“ القائلة بضرورة التمييز بين الأعراق مثبتا أن لاشيء في العلم المعاصر يمكن أن يؤكد أفضلية عرق على آخر أو أفضلية ثقافة على أخرى بل كان إسهام الثقافات البدائية واضحا في إثراء المخزون الإنساني للشعوب  .
إن أطروحة كلود ليـڥي-شتراوس هي بمثابة البحث في الميتا-ثقافة أو في اللاوعي الثقافي إذا ما شرعنا لأنفسنا إستيراد المفهوم اليونڤي الدارس لللاوعي الجمعي ولأنها كذلك فقد كانت محاولة جادة في رصد ما هو كوني بين الثقافات وان كان كونيا ضمنيا أي كونيا غير مرئي أي غير واضح المعالم وغير جلي في حد ذاته إلا بضرب من ضروب التأويل والتخصص العلمي الشيء الذي يشرع لنا للتساؤل عن إمكانية تحقق الكوني الفعلي  وعن مدى واقعه وآفاقه وحدوده غير أن التساؤل بشأن الكوني هو في الواقع تساؤل بشأن التواصل والأنظمة الرمزية لا لشيء إلا لأن الكونية هي في أكثر معانيها حميمية تعني الإمتداد الزمكاني  واللانهائية و التداخل لأنظمة الوحدة ضمن كثرة ممكنة تداخل العناصر الأربعة –كما بينا ذلك منذ بدء المبحث –لتشكيل الكون ومنها التكون ·
4 - التواصل الإنساني ومطلب الكوني:
إذا ما تعلق الأمر بمسألة التواصل يجب أن نتوصل أولا إلى إيجاد تعريف يليق بخصوصية المسألة المرتبطة أساسا بخصوصية الإنسان ذلك” الحيوان الرامز“-على حد عبارة ﺁرنست كاسيرر ، وبخصوبتها المنفتحة بمصراعيها على إمكانية الفهم للآخر قصد تأسيس تفاهم ممكن معه  وأيضا على إيجاد صلة به بتوسط مؤسسة الرمز بين باث ومتلقي حيث يقول يورغن هابرماس:«ان نقول شيئا ليس معناه فقط أن نقول شيئا ، بل- : أن نقول شيئا لأحد ؛- و أن ُنفِهمه ما نريد أن نقوله له…»[ هابرماس-” نظرية فعل التواصلي“-1981] ·
غير أن الرمز و إن، وضع في العلوم اللسانية موضع إلتباس ضمن حقل دلالي يفرق مفهوميا على الأقل –بينه وبين العلامة والإشارة والعبارة والدوال والمدلولات ويجمع الكل ضمن باب اللغة فانه في المبحث الأنثروبولوجي يتخذ أبعادا أكثر عمقا وأكثر إجابة عن كثرة الإنساني المتشضية بين اللغة والدين والفن والعلم  التي تعتبر بأسرها أنظمة رمزية ناتجة عن كائن ينتج الرمز ويتمادى في إنتاجه  متجاوزا وحدة النظام إلى كثرة الأنظمة  كما تجاوز من قبل وحدة الثقافة إلى كثرة الثقافات ،غير أن لعبة الكثرة والوحدة هي التي كانت سببا خلق أزمة بين الثقافات جعلت من مطلب الكونية مطلبا لللا-تواصل والصراع بين الحضارات بماهو صراع بين الرموز الثقافية لها وبالتالي يكون صراعا بين هويات وخصوصيات مختلفة الشيء الذي يدعونا للتفكير في هذا العنف الذي تخفيه الكونية وخطورته على مبدأ الإختلاف الثقافي و التفكير أيضا في الحلول الممكنة في استنقاذ سؤال الخصوصية من الاضمحلال والتلاشي بفعل التأثيرات الكونية أي في ما يمكن أن يحافظ على الخصوصيات وما يجعل مطلب الكونية ممكنا وذلك بتمكين هذا التواصل الثقافي أي بجعل حوار الثقافات ممكنا عن طريق تعلم ثقافة الحوار·
أ-الإختلاف الثقافي و صدام الحضارات:
يعتبر سؤال الاختلاف هو سؤال الخصوصية عن جدارة، التي لا تكون كذلك إلا باكتشاف المختلف والمنتمي إلى سجل هويات أخرى ،غير أن الاختلاف قد يشمل سجلات ومجالات يمكن أن تحول الإختلاف- الذي يعني التنوع- إلى خلاف حقيقي يجعل التقاء الثقافات غير ممكن ويحول الرغبة في الكونية إلى استعمار فكري وإيديولوجي يجعل من المشهد العالمي صدامي وصراعي ،وضمن هذا الأفق المتوتر اشتغل العديد من مفكري ما بعد الحداثة الذين من بينهم صاموئيل هنتنڤتون[Samuel p. huntington]الذي حاول أن يبين خاصة في كتابه:«صِدام الحضارات»[ le choc des civilisations] الصفة السلبية للكونية بماهي قتل وطمس للخصوصيات حيث اشتغل على علاقة الحضارة الغربية بغيرها من الحضارات وحاول نقد العقل الغربي الذي يسعي إلى فرض السيطرة الاقتصادية والسياسية على الحضارات اللا-غربية هذه السيطرة التي تحولت فيما بعد إلى سيطرة ثقافية قائمة على طمس الهويات والإنتماءات الرمزية وذلك إستنادا إلى محاولة تصدير الفكر الحداثي المنادي بالتحرر الفكري والديني السياسي إلى الثقافات الأخرى ،وذلك ضمن محاولة تأسيس مشروع كوني يريد إمتصاص الخصوصيات ضمن فكرة ”الحضارة العالمية“التي تسعى إلى التعامل مع الإنسان وفق المقاييس الأخلاقية الغربية الشيء الذي كان سببا في وجود ردات فعل صداميه من الخارج عن طريق المدافعين عن الهويات الدينية والخصوصيات القومية ومن الداخل عن طريق مجابهة المهاجرين والأقليات العرقية الموجودة في أوروبا وأمريكا للممارسات التي قد تتخذ طابعا عنصريا أحيانا ضدهم يكون مستهدفا لرموزهم الثقافية ولديانتهم ولإنتماءاتهم الفكرية المختلفة ·
وكنتيجة لتحليل هذه الفكرة يعتبر هنتنڤتون أن التنازل عن الخصوصيات الثقافية لبعض الشعوب لن يكون بالسهولة التي يتصورها الغرب بل إن المقاومة للغربنة[l'occidentalisme] والتشبث بالهوية قد يصل إلى حد استعمال العنف إذا ما تعلق الأمر بالمساس بالمقدسات خاصة، لذلك لايمكن تجاوز صراع المطلقات الذي يعبر عنه ماكس ڥـيبر بحرب الآلهة[la guerre des dieux] إلا بالتحاور مع الآخرين قصد إيجاد ما يمكن أن يكون مشتركا بين الجميع أو عن طريق فسح المجال لجميع الخطابات للتعبير عن رأيها ومعتقداتها بكل حرية وبدون أي تحفظ سياسي أو عرقي أو إيديولوجي  وبهذه الطريقة يمكن إيجاد نظام عالمي يؤسس للتعايش السلمي بين الحضارات·
إن نظرية هنتڤتون و إن بدت إنسانوية في نهاية التحليل من خلال طرحه للحل السلمي الذي يمكن أن يستنقذ الاختلافات  الثقافية عن طريق حوار الثقافات فانه في الواقع حل سياسي يريد إستنقاذ الحضارة الغربية وتحديدا انتماءه الأمريكي من العنف الذي قد يتولد من جراء مقاومة القيم الدخيلة على الثقافات الأخرى وتأثيرات ذلك على السياسة الأمريكية وعلى مصالحها الإقتصادية فيما بعد نظرا لأن المختصين في العلوم الحضارية يعرفون مفهوم الحضارة العالمية بأنه ﺁخر مرحلة يمكن أن تصل إليها ثقافة ما حيث أن الثقافات تنشأ ضمن إطار ضيق ثم تتطور ضمن اتجاه داخلي ينتج ثقافات فرعية محلية وضمن اتجاه خارجي يسعى إلى تصدير الثقافة المحلية نحو ثقافات أخرى ثم إلى تدويلها لتتحول إلى ثقافة عالمية ثم تتطور هذه الثقافة العالمية لتصبح حضارة عالمية غير أن قانون الحضارات العام يقر بأن كل حضارة تبلغ أشدها ثم تتفكك وتندثر…


ب-حوار الثقافات ورهانات الكونية:
إن مطلب التواصل هو أولا وقبل كل شيء، مطلب حوار متبادل يكون كل طرف فيه فاعلا وكذلك منفعلا ، غير أن الإنفعال هنا لا يجب أن يفهم على أساس سلبي يضع سؤال الهوية موضع خطر بل يجب أن يكون حوار الثقافات مبشرا بإثراء فكري و انفتاح حضاري قادرا على تحقيق رهان التحضر بما يتطلبه من حضور، و راهنية ، وقادرا في الآن ذاته على تجذير الهويات وتأكيد خصوبتها وخصوصيتها في معزل عن التعصب والعنف والإقصاء الرمزي لذلك يقول  تزفيتان تودوروڥ في كتابه -”اللا-نظام العالمي الجديد“ [ترجمة وليد السويركي ،أزمنة،عمان-ص 88-89 ]:«لا الأفراد، و، لا الجماعات مضطرة للموافقة على طرائق تفكير الآخرين وسلوكياتهم ،أيضا لا يملكون الحق في منع الآخرين من الاستمرار في خياراتهم ، ولا في اضطهادهم…» لان المثاقفة شحذ للرؤية وتأكيد لبينذاتية معانقة للكوني ومؤسسة لبينثقافية يكون الإنسان هاجسها الأول وهاجسها الأخير، فلا تكون الأنا ضمنها موضع خطر إذا ما اعتبرت نفسها أخر للآخر وإذا ما اعتبرها الآخر بمثابة أناه  وذلك عودا على بدء إلى المشروع الأخلاقي الكانطي …الذي ربما تحقق يوما ما…
خاتمـــــة:
لا يوجد إذن تعارض بين الخصوصية والكونية بل على العكس من ذلك يوجد بينهما من التّلازم ما قد يجعل الكوني يهلك بموت الخصوصي. ومن ثمّ فإنّ الحفاظ على الهويّة أو الخصوصية لا يمثّل إعراضا عن الكونية أو رفضا لها بقدر ما يمثل شرطا للانخراط فيها و التّحقق بمقاصدها من خلال مقاومة كلّ أشكال العولمة ومحو الخصوصيات الثقافية. فالخصوصية لا تناقض الكونية إلا إذا قدمت نفسها بديلا عن الكونية أي خصوصية معولمة، تفرض على الجميع ولا تحترم الفوارق التي يقتضيها التّنوع والاختلاف بين البشر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق