الأربعاء، 22 ديسمبر 2010

العمل بين مطلب النجاعة ومبدأ العدالة

زهيـر الخويلدي:
"
العمل ليس مجرد ضرورة قاسية لا يستطيع الإنسان التملص منها بل هو في الوقت ذاته الإمكان المتاح له حتى يبلغ جدارة عالية"[1]
استهلال:
لم يوجد الإنسان فقط ليتأمل ويحب الحياة وينظم الشعر ويؤلف الموسيقى ويلهو ويلعب بل وجد أيضا ليعمل ويشقى ويكابد وينتج ويحول ظواهر الطبيعة إلى أشياء نافعة وينمى ثرواته ويمتلك جملة من خيرات ويطور فرديته ويستقل نسبيا عن الجماعة التي وجد ضمنها في السابق لاسيما أنه "كلما أخلد إلى الكسل كلما صعب عليه أن يعزم على العمل"[2]، لكن التوتر سيبرز والإشكال سيظهر عندما يجد المرء نفسه حائرا أمام إيجاد تفسير لعمله فهل هو وسيلة لتحقيق الربح بتقاضي أجر أم أنه غاية إنسانية نبيلة؟ وهل يعمل لتلبية الضرورة الطبيعية أم لتجسيم اختيار ثقافي؟ هل العمل هو مصدر الملكية وطريق نحو السعادة أم أنه يضفي معنى على الحياة؟ ما يزيد من حيرتنا هو تحول العمل من الحرفة إلى المانيفاكتورة ومن علاقة إنتاج داخل المصنع إلى علاقة تبادلية بين الدول في إطار التقسيم العالمي للعمل "عمل على تأبيد التبادل اللامتكافىء وتفاقمه"[3]، وقد انعكس التقسيم التقني للعمل كذلك سلبا على العمال وعوض أن يخلصهم من الملل صار هو الذي يسبب لهم ذلك وصاروا يعملون دون متعة وكما يقول دي توكفيل:"كلما تقبل مبدأ تقسيم العمل تطبيقا أكثر تقدمت الصنعة وانحط الصانع" وبالتالي عوض أن يحفظ العمل كرامة العامل ويحقق له الازدهار والرخاء المادي فاقم من بؤسه وجعله ينحط عن كرامة طبيعته ويحن إلى حياة البدائي الهمجية الحرة الواسعة. إن الذي يدعونا إلى الاستشكال الفلسفي المعاصر لظاهرة العمل هو المفارقات التي أصبحت تطرحها والاحراجات التي بات تخلفها عند الإنسان العادي ومحترف الثقافة وممتهن الصناعة وخاصة تواجدها على عتبة البطالة والاستعباد وبين نحتها لماهية الإنسان وتسببها في فقدان الذاتية والتحول إلى آلة عاملة غير قادرة على التمتع باستهلاك قليل مما تنتجه. رأس المشكل عبر عنه أحد الباحثين عن فرصة عمل في عصر اللاعمل على النحو التالي:" أنا لا أحب أن أظل عاطلا عن العمل ولكني لا أريد أن أصبح عبدا أثناء عملي". فإذا كان العمل عبادة والله تعالى يكره الإنسان البطال وإذا كانت كينونة الإنسان تكمن في سعيه وفعله وكده اليومي فان الإسلام قد شرع ذلك وألزم الناس به ودعا إلى طلب العلم النافع خاصة لما ألغى الرق وأعتق الجسد من الامتهان وحث على طلب الرزق إلى يوم البعث، كما أن الرسول صلعم قد أوصى بإعطاء العامل أجره المناسب قبل أن يجف عرقه وأن يتمتع بحريته كاملة وأن تصان كرامته دون قيد أو شرط. فهل التزمت الحضارة المعاصرة بمثل هذه القيم الكونية واحترمت القوانين الوضعية التي امتلأت بها مجلات الشغل أم أنها ظلت مجرد حبر على ورق؟ يترتب عن ذلك أن واقع العمل في عصر العولمة أنتج توترا حادا بين مطلب النجاعة ومبدأ العدالة، فما نعني بالنجاعة؟ وما المقصود بالعدالة ؟ كيف ارتبط العمل بقيمة النجاعة؟ هل تحترم كل الأعمال الإنسانية مبدأ العدالة ؟ كيف يكون وضع العمل في إطار التناقض بين العدالة والنجاعة؟ أليس الحرص على نجاعة العمل يؤدي إلى تدنيسه لمبدأ العدالة؟ ولماذا أفرز العمل توترا حادا بينهما؟ بعبارة أخرى هل العمل يحقق مطلب النجاعة فقط أم أنه يمكن أن يحترم مبدأ العدالة؟ متى يكون العمل منصفا ؟ هل بالإبقاء على التناقض بين العدالة والنجاعة أم بإزالته وتحقيق التوازن بينهما ؟ هل يضفي العمل على امتلاك البعض القسط الهام من الثروة المشروعية القانوني؟ هل العمل خلق للقيمة أم سلب لكل قيمة؟ هل من العدل المساواة بين النسا في الأجور؟ وهل المنفعة المادية هي الغاية المثلى من العمل الإنساني؟ ما نراهن عليه من البحث في آداب العمل هو تفادي النظر إلى العدالة من زاوية المساواة والتعويض والتعامل معها من زاوية الإنصاف والتوزيع للمنافع والخيرات حتى يستفيد الذين هم أقل حظا.
1-
العمل والنجاعة الاقتصادية:
"
إن الإنسان في المجتمع الحديث يتصرف وفق ما تمليه عليه المصلحة"[4]
العمل هو المعاناة المشفوعة بتعويض أو بربح وهو الفعل المتواصل الذي ينكب عليه الإنسان لينجز عمليات صناعية وليبدع أشياء لها نفع معين وبالتالي "يعتبر العمل عملا منتجا إذ هو يساهم في خلق إنتاج ما" ومن هنا جاء المطلب الكانطي الذي يقر بحاجة الإنسان إلى "أن يتعلم أن يعمل" لأنه "في حاجة إلى أشغال تستلزم إكراها معينا"[5]. جميع الناس يتفقون في البحث عن أعمال من أجل تحصيل الرزق وجلب الخيرات وقد عبر عن ذلك نيتشه بقوله:" البحث عن عمل من أجل الربح هذا ما يتساوى فيه تقريبا كل سكان البلاد المتمدنة"[6]. إن العمل شأن جماعي يساعد الناس على الوقوف ضد الاستسلام الآني للعنف ويجعلهم ينخرطون في شعور عام بالارتياح عندما يوفر لهم وعدا بالربح الآجل وكما يقول جورج باطاي:" يقتضي العمل تصرفا معينا تكون فيه نسبة الجهد المبذول قياسا إلى النجاعة الإنتاجية نسبة قارة."[7] على هذا النحو يرتبط العمل بتحقيق النجاعة والفائدة وقد عبر عن ذلك برودون بقوله:"إن العمل هو الفعل الذكي الذي يعالج به الإنسان المادة ويحولها إلى شيء نافع" وبالتالي كان العمل مصدر الثروة وأساس الملكية وكما يصرح جون لوك:" إني قد بدلت بجهدي الخاص الحال العامة التي كانت عليها الأرض لذلك أصبحت ملكي الخاص بحكم ذلك الجهد"[8]. في هذا السياق تقريبا أكد روسو:" أن العمل وحده هو الذي أعطى الفلاح الحق في منتوج الأرض التي حرثها"[9]. لكن ما نعني بالنجاعة؟ النجاعة Efficacitéهي الفاعلية التي ترتبط بمعاني الإنتاج والربح والثروة وتحقق الوفرة والرخاء والرفاه والاستهلاك، بعبارة أخرى النجاعة في العمل هو استعمال أفضل الوسائل الممكنة في أسرع الأوقات بأقل التكاليف لتحقيق أعلى النتائج. يقول آدم سميث حول ذلك:"إن الاستمرار في الإنتاج بتكاليف أقل تمكن من البيع بأكثر ربح...وان اختراع عدد كبير من الآلات التي تسهل العمل وتختصره تمكن أنسانا واحدا من القيام بمهمة عدد كبير من الناس"[10]. النجاعة هي طريقة من التحقق تضمن القدرة على انجاز نوع خاص من الأداء يقع التخطيط لتحصيله بشكل مسبق، وبعبارة أخرى إن النجاعة هي أسلوب في العمل يتضمن قصدية منظمة تمكن من تحقيق هدف نفعي وتتحدد كإستراتيجية تنظم طريقة العمل ليضمن لنفسه ما أراد من منفعة بالتعويل على مبدأ الأداء. كما تتطلب النجاعة توفير مجموعة من المستلزمات هي التخطيط المنظم وطريقة في العمل ذات مراحل وتتكون من جملة من الوسائل وكذلك التحكم في المجهودات عن طريق ضبط السرعة والدقة وتوخي المرونة والسهولة. إن مثل هذا القول يفيد أن التقسيم التقني للعمل داخل نظام رأسمالي تتحكم فيه الدولة يحقق الرخاء الاقتصادي الذي يفرز استقرار اجتماعيا مما يمكن الأفراد من تحقيق مصالحهم الفردية في ظل مصلحة جماعية متوفرة. ألم يقل ماركس وانجلز في البيان الشيوعي:"خلقت الرأسمالية خلال فترة حكمها التي كانت بالكاد مائة عام قوى إنتاجية أكثر جبروتا مما خلقته كل الأجيال السابقة معا"[11]؟ ما نلاحظه أن النجاعة مفهوم بالأساس اقتصادي مرتبط بالوصول بالعمل إلى قدرة إنتاجية عالية ويتحرك ضمن مبدأ المردود وكوجيتو البضاعة والعقل الحسابي ويربط العمل بالمصلحة والربح والثروة والمنفعة وبالتالي فأن كل عمل لا تحصل منه منفعة مادية هو عمل غير ناجح وكل عمل يحقق المصلحة الآنية والمستقبلية والخاصة والجماعية هو عمل ناجع، في هذا السياق يقول كاينز:" إن العالم لا تحكمه المشيئة الإلهية على نحو تتوافق فيه المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة لأن التجربة تؤكد أن المصالح الجماعية تعبر عن المصالح الفردية." غير أن الحرص على المردودية أثناء العمل وعلى إنتاج كمية أكبر من البضائع تزيد عن حاجيات السوق والالتجاء إلى مضاعفة عدد ساعات العمل من أجل المزيد من الإنتاجية قد أدى إلى تحويل مبدأ النجاعة إلى وسيلة يقع استثمارها اجتماعيا لتنمية رأس المال وتطوير الاقتصاد والى حصول الاستتباعات خطيرة أهمها التفاوت واللامساواة والاستبعاد الاجتماعي والاغتراب والتشييء والتموضع. لكن ما تعني هذه الظواهر؟ ان الاغتراب هو حالة من التفاوت بين الذات وما يتحقق منها تعلن عن فقدان الذات لذاتها لاسيما وأن العامل يكون المنتج من جهة والغريب أمام ما ينتجه من جهة أخرى. في حين أن التشييء يتمثل في أن الزيادة في قيمة عالم الأشياء قد حول الإنسان من مرتبة الصانع للأشياء إلى مرتبة المتماهي معها.أما التموضع فيعني أن الذات لم تعد تنتج ذاتا تعي ذاتها بل تحولت إلى موضوع فاقد قيمة ما يصنع بفعل التكرار الدائم لنفس العمل. حول هذا الموضوع يقول ماركس:"يصبح العامل سلعة تزداد وضاعة بقدر الزيادة في خلق السلعة" ويضيف أيضا:"كلما زاد فقر العامل وتعاظم فقر عالمه الداخلي إلا وحل ما يملكه بشكل خاص."[12] ان هذه النتائج الخطيرة سببها الاعتقاد في أن العمل إما أن يكون ناجعا أولا يكون عملا وعدم الاكتراث بمبدأ العدالة والتغافل عن الظروف اللاانسانية التي يعاني منها العمل والوضع البائس. ان "العمل هو الوسيلة التي يستطيع من خلالها الناس تحسين دخلهم ولكن بسبب العلاقة بين الأجر المنخفض والفقر قد لا تقدر الوظيفة وحدها على انتشال الأسرة من الفقر."[13] بل إن ما حصل هو النتيجة العكسية أي المزيد من الاستبعاد الاجتماعي والعيش في أسر فقيرة والتداخل بين الأجر المنخفض والفقر ومحدودية الرعاية الصحية والنقص في الروابط الأسرية وسوء التغذية. فهل كان آدم سميث على خطأ عندما بين:" أن الزيادة الكبيرة في منتجات مختلف الحرف والمهن الناتجة عن تقسيم العمل تؤدي في مجتمع سليم القيادة إلى حالة من الرفاهة العامة التي تسري إلى آخر طبقات الشعب"؟ ما منشأ الفقر واللامساواة والبطالة والحرمان والتفاوت وكل المشاكل الاجتماعي؟ انتهينا إلى أن التضافر بين العمل والنجاعة أدى إلى إحداث نجاعة دون عدالة عبر عنها ايريك فايل بقوله:"إن المواطن هو بادئ الأمر عضو في مجتمع العمل وأول ما يطالب به هو جزء عادل من الإنتاج الاجتماعي." [14] والمقصود هو الاحتجاج على الحيف والإجحاف والجور الذي يتعرض له العمال في مجتمع المصنع والذي أدى إلى إنتاج فوراق اجتماعية وتفاوت في الدخل وخلل في التمتع بالخيرات بين الأفراد والطبقات لكن ألم "يبتدع الحق ليقاوم اللامساواة"[15]؟ أليست العدالة هي الحق؟ فما ينتج عندما نربط بين واقع العمل ومبدأ العدالة؟
2-
العمل والعدالة الاجتماعية:
"
ان العمل رغم صدوره عن لعنة يظل مرتبط بالصلاة" هيجل[16]
العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه والعمل على احترام حقوق كل إنسان، عند أفلاطون العدالة هي إحدى الفضائل الرئيسية الأربعة إلى جانب الحكمة والشجاعة والاعتدال اذ يقول في هذا السياق:"لا يسمح الإنسان العادل لأي جزء من أجزاء نفسه بأن يقترف شيئا غريبا عنه ولا يدع مبادئ نفسه الثلاث تتدخل في شؤون بعضها البعض، فهو صديق نفسه ينسق بين أقسامها الثلاث ويربط بين عناصرها بحيث يصبح شخصا واحدا بعد أن كان متعددا." تفيد العدالة في معناها الإتيمولوجي ماهو مطابق للحق فهي تعود في الأصل إلى كلمة أيjuris-jus الحق. وقد اقترنت العدالة Diké بالمساواة والفضيلة وبالتالي فإن سجلها أخلاقي يوكل إليها مهمة احترام حقوق الآخرين. لكن هذا المعنى تغير في الفترة المعاصرة ليرتبط بتوزيع الثروات والمنافع الاقتصادية وبالمصلحة العمومية التي تقتضي أشكالا من التفاوت حتى تتحقق لتصبح ناتجة عن ضرب من الاتفاق العام. في نفس السياق يشير مسكويه:" ليست العدالة جزءا من الفضيلة وإنما هي الفضيلة كلها" ويقصد أنها رأس المأمورات وأساس العمران وذهابها يؤدي إلى خراب العمران وتفشي الظلم ولذلك نجد أبيقور يقول:" لا وجود لعدل في ذاته بل العدل تعاقد مبرم بين المجتمعات تكون الغاية منه ألا يلحق أحدا ضررا بغيره وألا يلحقه منه ضرر." ويرى نيتشه ما يلي: "كل شيء له قيمة وكل شيء يمكن دفع ثمنه ذلك هو القانون الأخلاقي للعدالة." [17] أما اسبينوزا فانه يعرف العدالة على أنها:" استعداد دائم للفرد لأن يعطي كل ذي حق ما يستحقه طبقا للقانون المدني." وقد جرت العادة أن يقع التمييز بين عدالة تعويضية وعدالة توزيعية وتتمثل العدالة التعويضية في تعويض المظلوم من الظالم على أساس التساوي ووفق مبدأ العين بالعين والسن بالسن سواء كان ذلك في المعاملات الإرادية الناشئة عن تفاهم الطرفين (قران و بيع وشراء) أو في المعاملات غير الإرادية (السرقة والاعتداء والشتيمة). هذا النوع من العدالة يقوم إذن على قاعدة المساواة الرياضية نظرا لأن التعويض يكون عادلا إذا ما وجدت مساواة حقيقية بين الطرفين كانت لهما نفس القيمة. في هذا السياق يصرح أرسطو:" عرفنا الجائر على أنه المخالف للقانون وغير متساو أما العادل فهو ما ينص عليه القانون وما يتوافق مع المساواة[18]."
أما العدالة التوزيعية فهي الصادرة عن السلطة والمتمثلة في توزيع الخيرات والأموال والفوائد حسب الاستحقاق والجدارة والموهبة والكفاءة والمجهود المبذول نظرا لأنه ليس من باب العدل توزيع نفس المقادير على أشخاص غير متساوين. حول هذه الفكرة يقول المعلم الأول:"أما في العدالة الجزئية وما ينتج عنه من حق فالنوع الأول منها يظهر على مستوى القسمة في الكرامة والثروات أو على مستوى الامتيازات الأخرى التي تعم أفراد المدينة وهذه الامتيازات قد تكون موزعة بين المواطنين داخل المدينة بطريقة متساوية وغير متساوية أما النوع الثاني فيخص العدالة المرتبطة بالعقود."[19] هذا التمييز بين العدالة التعويضية والعدالة التوزيعية يذكرنا بالتمييز الذي قام به أفلاطون في محاورة الجمهورية بين المساواة العددية التي تنظر إلى الأفراد على أنهم متساوين مثل أسنان المشط والمساواة الهندسية التي تقتضي معاملة الأفراد حسب حاجياتهم واستحقاقاتهم.إذ يقول حول هذا الموضوع:"إننا لسنا جميعا سواء وإنما تتباين طبائعنا وتوجد بيننا فروق كامنة تجعل كلا منا صالحا لعمل معين"[20] على هذا النحو بدل إقامة علاقات على أساس المنافسة والصراع والتصادم في إطار العمل والمسألة الاجتماعية يكون من الضروري كما عبر عن ذلك ايريك فروم إقامة علاقة تعاون عادلة بدونها يستحيل إيقاف التوجه الأعمى للآلة الاجتماعية. بيد أن العمل في شكله الحالي غير عادل وذلك لتداخل عوامل متفرقة، فالعامل لا يتقاضى أجرا يعادل قيمة ما ينتجه بل إن ثمرة منتوجه تسرق منه، كما أنه لا يتقاضى مقابل احتياجاته. زد على ذلك اللامساواة التي تجد تبريرها في التفاوت الطبيعي ذكاء وموهبة، وبناء على ذلك يصبح العامل رهين أبشع المساومات وسوء ذرائع الاستغلال استجابة لمنطق السوق القائم على العرض والطلب والصراع والمنافسة. من هذا المنطلق يرى أحد منظري مدرسة فرانكفورت هربرت ماركوز أن:"الرفاه والفعالية وافتقاد الحرية في إطار ديمقراطي هذا ما يميز الحضارة الصناعية المتقدمة...(بعد أن) تحول الجسد والفكر تحت سلطان مبدأ المردود إلى أدوات للعمل المغترب..." [21]
إن التزام تنظيم العمل باحترام مبدأ العدالة يؤدي إلى التفريط في قيمة النجاعة من أجل تحقيق مبدأ المساواة ومنع تراكم الثروة وتعطيل النمو الاقتصادي وغياب المنافسة والتقليص من فرص الربح. "إذا جعلتم العدالة غير نافعة تماما فإنكم ستخربون بذلك ماهيتها وستعلقون الإلزام الذي تفرضه على البشر"[22] على أي نحو تتحدد حقوق الأفراد من الناحية الاقتصادية؟ هل يمكن أن نتحدث عن عدالة في ظل التسليم باللامساواة؟ وهل من العدل أن تمنح المهارة أو الموهبة الحق في جراية أرفع ضمن مجتمع إنتاجي تعاوني؟ ما معنى أن يصرح أرسطو أن العدل فضيلة تامة ومطلقة ولكنها شخصية محضة ومتعدية إلى الغير؟
3-
العمل وإتيقا الإنصاف:
"إن العدالة من غير النجاعة ليس لها معني وان النجاعة لا تفيد شيئا من غير العدالة "[23]
إذا كانت النجاعة هي القوة عند باسكال فإن" العدالة دون القوة عاجزة والقوة دون العدالة مستبدة" لذلك يجب أن نضع العدالة والقوة معا وأن نحرص على أن يكون العادل قويا والقوي عادلا", أما إذا كانت النجاعة تعني المصلحة عند ايريك فايل فإن" العدالة دون مصلحة وهم والنجاعة دون عدالة تضليل وفساد" ويقصد أن ما يطرحه العمل من مشاكل اجتماعية يمكن أن نجد لها حلا في المجال السياسي الأخلاقي وليس في المجال الاقتصادي، ويؤكد على أن النجاعة تفترض اعتبار متطلبات الواقع والمصلحة والتنظيم وكل مقتضيات الحساب العقلي، أما العدالة فهي تنظيم المصالح الفردية في إطار المصلحة العامة وهذا هو مبدأ الإنصاف عينه الذي يجعل المواطن يطالب بجزء عادل من الإنتاج الاجتماعي، ويصرح حول هذه الفكرة:"أن الثروة والإنتاجية ووضع المجموعة الخارجي وتقاليدها الخاصة وكامل أسلوب عيشها عناصر تتدخل في التحديد الملموس لذلك الإنصاف,."[24] لو كانت النجاعة تعني المنفعة فإنها تستوجب التفكير في المعنى التوزيعي للعدالة وقياسا على ذلك يبحث ستوارت مل في تحديد المفهوم باستحضار المعاني الاشتقاقية مشيرا إلى علاقة العدالة بالقانون والعرف مبينا أن اللفظة اللاتينيةJustum مشتقة منJussum أي ماهو منظم وأن اللفظة الاغرقية Dikaion تعني في الأصل تقديم قضية عدلية واللفظة الانجليزيةright تفيد القانون والحقlaw. من هذا المنطلق تبدو العدالة مالكة لعلاقة متينة بالمنفعة وأن الشعور بالعدالة يقوم على أمرين هما الرغبة في معاقبة من أحدث ضررا ووجود أشخاص أصابهم ذلك الضرر. وتبعا لذلك يذكر ستوارت مل تصورين للعدالة: الأول يطالب العامل بأن ينتج ما ينتجه الآخرون لا غير، أما الثاني فيرى أن المجتمع يستفيد من العامل الذي يكون مردوده أعلى وخدماته أنجع ولذلك يجب عليه أن يمنحه أجرا أعلى وألا يعطي إلا كمية أقل من وقته وجهوده. ما يلاحظه مل هنا هو أن هذين التصورين للعدالة متضادان ويستحيل إقامة الانسجام بينهما ويرى أن" النجاعة الاجتماعية هي وحدها القادرة على الحسم بين هذه وتلك"[25].فإذا كانت العدالة تعرف على أنها منفعة عمومية تقترن بالحق فإن الصالح العام هو الذي يكمل أن يكون لشخص الحق في ضمان ما يجب أن ينتفع ويتمتع به. يستحضر ستيوارت مل لتوضيح أطروحته عدة أمثلة تتعلق بالحق في القصاص والمكافآت وتوزيع الضرائب ويقر أن مفهوم المنفعة لا يحيل إلى السجل الأخلاقي فحسب بل وكذلك إلى حقل البحوث الاقتصادية. يظهر أن النظرية النفعية l'utilitarisme عند مل ليست مجرد سعي أناني وراء المصلحة الشخصية وهي ليست إقصاء للعدالة بل إنها نظرية اقتصادية تستحضر السعادة كغاية للإنسان وترى أن المصلحة العامة هي التي لها أولوية على المصلحة الخاصة وأنها لا تتحقق الا بضمان الأولى. إن تجاوز التوتر الحاد الذي أوجده واقع العمل في عصر العولمة بين مبدأ العدالة وقيمة النجاعة لا يتم إلا باللجوء إلى مفهوم الإنصافEquité لكونه ينبع من الشعور الطبيعي بماهو عادل وهو أسمى من القانون الوضعي ويتمثل في احترام احتراما كليا ما يحصل عليه كل واحد من البشر . هنا تطرح فكرة العدالة التوزيعية التي نظر إليها جان راولز كمرادف للإنصافEquité التي تحقق في الآن نفسه المصلحة الفردية في إطار ضمان استقرار المصلحة الكونية. يربط فيلسوف الطريق الثالث بين العدالة Justice والإنصاف ويرى أن طريقة توزيع الخيرات الأولية بين أفراد المجتمع هو أمر أساسي إذ أن "معرفة ما إذا كان مجتمع ما عادلا لا تقوم إطلاقا على كمية الخيرات الأولية بل على طريقة توزيعها على من هم الأقل حظا فحسب". يعطي راولز أهمية كبيرة للحريات مثل حرية الترشح للوظائف العامة وحرية التعبير وحرية التفكير والمعتقد وحق الملكية وعدم انتهاك حرمة الشخص. فهذه حريات وحقوق تحددها الدولة. كما أن المساواة تقتضي ألا يؤثر المنشأ الاجتماعي سلبا على الأفراد ويحاول أن يجمع بين الحرية الاقتصادية والحماية المدعمة للحريات والتشريعات الاجتماعية التي تسمح بتحسين وضعية من هم أقل حظا. يحدد راولز مبادئ العدالة من خلال فرضيتين هما: الوضع الأصلي وحجاب الجهالة وبالانطلاق من مبدأ الحرية ومبدأ الاختلاف ذلك أنه في وضع شبيه بالحالة الطبيعية عند منظري العقد الاجتماعي ودون معرفة مسبقة بالوضعيات الاجتماعية يكون الأفراد قادرين على اختيار عقلي يجعلهم يتفقون على تعريف العدالة من خلال الإنصاف وذلك بضمان الحريات الأساسية والنظر إلى الاختلاف والتفاوت على أنه ضرب من المساواة الديمقراطية، إذ يقول في هذا السياق:" يجب أن يكون لكل شخص في المقام الأول حق معادل للنظام الأكثر انتشارا للحريات الأساسية التي يتساوى فيها الجميع، نظام يكون متوافقا مع نفس النظام الذي للآخرين." [26] المبدأ الأول يتمثل في الحرية المرتبطة ببنية المجتمع الأساسية ويقر بأن للأفراد الحرية في فعل أمر ما أو الامتناع عن القيام به وقد صاغه راولز على النحو التالي:"يجب أن يكون لكل شخص نفس الحق في أشمل نسق من الحريات التي يتساوى فيها الأفراد"[27]. هذا هو مبدأ المساواة المرتبط ببنية المجتمع والمنقسم إلى جانب سياسي ويتعلق بالحريات الأساسية وجانب اقتصادي ويتعلق بمسألة توزيع الخيرات والثروة، لكن الحق السياسي عند راولز له الأولوية على المنفعة الاقتصادية، إذ لا يسمح بتقليص الحريات الفردية باسم تحقيق عدالة اجتماعية. في حين ينص المبدأ الثاني على الاختلاف الذي يقول عنه:"يجب على أشكال التفاوت الاجتماعي والاقتصادي أن تكون منظمة على نحو يجعلنا قادرين على أن ننتظر منها أن تكون في آن واحد لصالح كل فرد وأن تكون مرتبطة بمواقع ووظائف مفتوحة للجميع."[28] يدل هذا المبدأ الثاني للعدالة على الفهم الليبرالي للحق وهو "مبدأ مساواة بالمعنى القوى لأنه بالنسبة إلى شخصين إذا لم يكن هناك توزيع يحسن وضعية الاثنين فإنه يجب تفضيل توزيع آخر عليه". زد على ذلك أنه يفسر فكرة انتفاع الأفراد من المنفعة العمومية ضمن نظام تسلسلي على أنها تقتضي الابتداء بتحسين رفاه من هم الأقل حظا ثم الصعود إلى منهم الأكثر حظوة". أما مفهوم الوضع الأصلي فقد اعتمده راولز كطريقة في العرض ليؤسس نظريته في العدالة بماهي إنصاف، إذ لو نفترض أناس يجهلون الوضع الذي سيكون لهم في المجتمع ولهم معرفة دنيا بالطبيعة الإنسانية ويفضلون الحصول على خيرات أولية ولنفترض أننا طلبنا منهم أن يختاروا تعريف للعدالة تنظم لهم المجتمع الذين يريدون العيش فيه فإنهم سيرفضون ربط العدالة بالمنفعة العامة كما نظر إليها النفعيين وسيختارون المبادئ التي حددتها نظرية العدالة كإنصاف، أي أنهم سيختارون الحريات الأساسية التي يكونون متساوين في التمتع بها وسوف يقبلون بالتفاوت الاجتماعي والاقتصادي لكنهم سيشترطون حماية مصالح من هم أقل حظا.
خلاصة القول إن العدالة كإنصاف هي ضرب من الحد الأقصى من الرفاه بالنسبة إلى أغلب أفراد المجتمع أي يقع تبني مبدأ العدالة التوزيعية (كل حسب مجهوده) بدل العدالة التعويضية (كل حسب حاجته)، وقد لخص راولز المشكلة في الصراع بين النفعيين والماركسيين كما يلي:"يتمثل المشكل في معرفة ما إذا كان فرض أعباء على عدد ضئيل قابلا للتعويض بأكبر مجموع من المنافع التي يمكن أن تكون للآخرين، أم أن العدالة تقتضي التساوي في الحرية بالنسبة إلى الجميع ولا تسمح إلا بالمساواة الاقتصادية الاجتماعية التي تكون في صالح كل فرد..."[29] إن الإنصاف عند راولز هو الحل الممكن لتجاوز خطأ الاشتراكية التي عظمت العدالة الاجتماعية والمساواة على حساب النجاعة والحرية الفردية وقصد إصلاح مأزق الرأسمالية التي نادت بالملكية الخاصة وحرية السوق وأهملت الحقوق الاجتماعية والإنسانية للعمل، ليكون بذلك أحسن طريق ثالث يدافع عن مبدأ المساواة في حق الحرية للجميع دون أن يتنافى ذلك مع وجود تفاوت ولامساواة تبرر دوما بالنظر إلى حصول المنفعة العامة والمصلحة العمومية. يصرح في هذا السياق:"إذا لم يكن ثمة ما يستوجب أن يكون توزيع الثروة والمداخيل على نحو متكافئ فلابد أن يكون لفائدة كل شخص وأن تكون مواقع السلطة والمسؤولية في نفس الوقت في متناول الجميع...إننا ننظم أشكال التفاوت الاقتصادي والاجتماعي على نحو يستفيد منه الجميع."[30] لا تعزل نظرية راولز ما هو عادل عما هو خير ولا تعتمد تعريفا لما هو عادل على أساس أنه تجميع أو بلوغ الحد الأقصى للخير كما يفعل النفعيون بل تقول بأولوية العدالة التوزيعية على المساواة. وتنتهي إلى الإقرار بأن "العدالة هي فضيلة المؤسسات الاجتماعية" لأن ما يهم هو معرفة المجتمع العادل وليس الفرد العادل ويرى أن ماهو أخلاقي يتفوق على ماهو اقتصادي وبالتالي يجب أن يكون نمط الحياة اختيارا عقلانيا وليس مجرد حساب نفعي. اللافت للنظر أن فيلسوف الليبرالية الجديدة يخضع مفهوم العدالة إلى التطور والتغير ولا يعتبره قيمة ثابتة مطلقة لأن ماهو عادل خاضع لصيرورة الزمن وتنوع المجتمعات ولأن ماهو عادل في هذه الهوية الثقافية يمكن أن يكون غير عادل في هوية ثقافية أخرى. لكن كيف يكون اعتبار راولز من أنصار الخصوصية واحتسابه كأحد المنتسبين إلى تيار الجماعاتيين Communautaristeوفي الآن نفسه يعتبره البعض الوريث الشرعي للنزعة الكونية Universalité الكانطية؟ ألا يوجد تناقض بين الحديث عن العدالة والإقرار بأشكال من التفاوت الاقتصادي والاجتماعي؟ فيم تتمثل المقاييس المعتمدة في توزيع المنافع الاقتصادية والاجتماعية؟ ما وجه الارتباط بين مبدأ الحريات الأساسية ومبدأ توزيع المداخيل والثروة؟ ألا "تغمر الفرحة الإنسان حين يعطي ويشارك وليس حين يستغل ويكنز"؟
خاتمة:
"إن قواعد الإنصاف والعدالة تخضع كليا للحالة الخاصة والوضعية إلي يوجد فيها الناس"[31]
إن العمل ظاهرة مرتبطة منذ القدم بتحقيق الحاجات الضرورية للإنسان وهي لم تستقر على حال بل شهدت عدة تحولات،ففي البداية كانت المجتمعات القديمة تميز ين الحياة التأملية والحياة العملية وبين العمل الفكري والعمل العضلي وكانت تستهجن المجهود العضلي وتجعله من اختصاص العبيد ولذلك فهي تقوم بطرده من دائرة العمل الناجع وكانت تنظر إلى العلم والمعرفة والتأمل على أنها الأعمال الحقيقية النافعة، لكن مع ظهور الحداثة وتفجر الثورة الصناعية وتحرر الجسد وقعت المماهاة بين العمل العضلي والعمل الذهني وأصبح مجهود الإنسان يمتلك قيمة تداولية في نظام الأجرة وبدأ تقسيم جديد للعمل على أساس التسلسل والوظيفة وصار كل عامل منشغل بصناعة معينة.
لكن رياح العولمة عصفت بهذا التصور الكلاسيكي للعمل وأنهته إلى الأبد عندما استبدلت علاقات الإنتاج المادية بين أصحاب رؤوس الأموال والعمال بواقع افتراضي جديد يكون فيه العمل لاماديا Immatériel أي مجرد وسيط رمزي يحقق التبادل ضمن سوق يتميز بالتحرر في كل شيء وتغطي بضائعه كافة أرجاء المعمورة وجميع الأسواق. بيد أن المعضلة الكبرى التي تطرح في المجال الاقتصادي هي معضلة تحقيق العمل العدالة والنجاعة في الآن نفسه بالنسبة إلى العامل والى المجتمع الذي ينتمي إليه فردا والإنسانية لأن الدولة قد تضحي بالعدالة وتنتج الفوارق واللا مساواة من أجل تحقيق نجاعة قصوى ونمو اقتصادي مشجع للاستثمار وقد تلجأ إلى التضحية بالنجاعة وتؤثر الركود الاقتصادي والانكماش من أجل معالجة بعض المشاكل الاجتماعية وتوفير الحماية لمن هم أقل حظا وبعبارة أخرى يحاول النظام السياسي الرشيد الحصول على نجاعة عادلة وعدالة ناجعة. إذا كان من غير الممكن أن نتحدث عن عمل بلا نجاعة فذلك لأنه لا يمكن لصاحب رأس المال أن يوظف أمواله دون أن ينتظر منها ربحا ومردودية وفائض قيمة ولكن ما لا يمكن قبوله هو أن يتضاعف فائض القيمة على حساب العمال أنفسهم خاصة وأن "الناس لا يرغبون في أن يكونوا أثرياء وإنما في أن يكونوا أكثر ثراء من الآخرين".
من هذا المنطلق لا يمكن أن تكون النجاعة وحدها للأصحاب رؤوس الأموال بل يجب أن يراعى الوضع المادي للعامل حتى تكون النجاعة نفسها عادلة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، كما أن الغاية من العمل نفسها لا تكون مرتبطة بزيادة الثروة وتفقير العامل ذهنيا وإنما يراعى في الإنسان سعيه إلى تطوير وعيه باستمرار وتنمية قدراته ونحت شخصيته وحفظ كيانه وكما يقول بول ريكور في كتاب "التاريخ والحقيقة":" أن تكون إنسانا ليس معناه أن تعمل عملا محددا فقط وإنما أن تجنح إلى أفق كلية الوجود الإنساني الذي أسميه العالم أو الوجود."[32] إن أكثر الناس لا يعملون إلا تحت ضغط الحاجة كما بين ذلك فرويد وهذا يعني أن الغاية من العمل في التمثل العفوي هو إشباع الرغبات وتلبية الحاجات ولكن وضعية العمل في المجتمع الصناعي قد جعلت الإنسان يطمح إلى ماهو أفضل من المتعة المادية والرخاء الاقتصادي ويتوق إلى تحصيل السعادة بمعنى الرضا الروحي على الذات والاستقرار النفسي، يصرح فروم في هذا السياق:"يبدو أن حصول كل الناس على الثروة سيوفر بدون استثناء السعادة للجميع"'[33]، والمقصود بالسعادة هنا ليس تحقيق إنتاج لامحدود واستهلاك لا نهاية له ولا أيضا إشباع حاجة ذاتية بل خلق ظروف يمارس ضمنها الناس نعمة الحياة الكريمة ورغد العيش. في هذا السياق قال ايريك فروم:" إن العمل هو الذي يحدد وضع الإنسان بالإضافة إلى الطبيعة والى الآخرين"[34]، ويدل بذلك أن العمل يمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة والسيادة على الكون ويجعله يؤدي وظيفة الاستخلاف والتعمير على أحسن وجه بتحويل المعرفة إلى قوة والمادة إلى طاقة واستغلال ذلك للتحكم في الزمان ومراقبة المكان لأن "حضارتنا نشأت منذ اللحظة التي بدأ فيها الإنسان مراقبة الطبيعة مراقبة فعالة"[35] ومنذ أن جعل من سعيه الدؤوب في الأرض شحنة يستمد منها الأمل في البقاء. "يتعين علينا ألا نتناسى روعة الأمل العظيم وضخامة الانجازات المادية والفكرية التي حققها العصر الصناعي"[36]، فماذا عساها أن تكون رسالتنا على الأرض غير أن نتعلم كيف ننجز عملا منصفا يوازن بين العدالة والنجاعة؟ ومتى يأتي اليوم الذي نقول فيه أن عملناTravail ارتقى من مستوى الحرفةŒuvre والمهنة والوظيفة إلى مستوى الفعلAction الإبداعي الخلاق المغير لوجه التاريخ والمحقق لقيم الحب والفرح والأمل للإنسانية جمعاء؟





ملاحق للتوسع في الدرس
عبد الرحمان بووشمّة:
في فترة الخمسينات ظلّ المشتغلون بالفلسفة يتابعون إنجازات جون راولز وتطويره لنظرية العدالة التي بدأت بمقال له تمّ نشره في إحدى المجلاّت الفلسفية، حيث لقيَ هذا المقال حجما كبيرا من المناقشات والتعليقات والمتابعات في الوقت الذي كان فيه راولز يعمل على تطوير أفكاره الأساسية من خلال عدد من المقالات والدراسات، إلى أن أصدر في عام 1971 كتابه الشهير "نظرية العدالة"، وحينذاك كان اسم جون راولز لا يحظى بشهرة كبيرة في الأوساط الأكاديمية لكنّه بعد إصدار الكتاب أصبح أحد ألمع أعلام الفلسفة المعاصرة لدى جماهير المثقّفين في معظم أنحاء العالم. لقد تمّ الاحتفاء بهذا الكتاب من طرف الأساتذة البارزين في ميدان الفلسفة السياسية واعتبروه حدثا فريدا من نوعه، بل وصفوه أنهّ تحفة فريدة، وإسهام منقطع النظير في ميدان الفلسفة السياسية، بل إنّ هناك من المهتّمين من ربط بين هذا الكتاب وبين الأعمال الخالدة لأفلاطون، وجون ستيوارت مل، و إيمانويل كانط. وفضلا عن هذا فقد أُختير هذا الكتاب في باب عرض الكتب الجديدة بمجلّة نيويورك تايمز كواحد من أهمّ خمسة كتب صدرت عام 1971، ومن ثمّ اعتبر الفيلسوف الأمريكي جون راولز 1921 – 2001 من أهمّ المنظّرين للعدالة كنظرية ومفهوم، ذلك أنّه عندما ترجم مؤلفّه لأوّل مرّة أحدث ذلك نقاشا محتدما في العالم القارّي، ونفس الشيء حصل في العالم الانكلوسكسوني، بحيث أثارت "نظرية العدالة" نقاشات كبيرة يصعب الإحاطة بها، إذ في الولايات المتحدة الأمريكية كانت الفلسفة الأكثر شيعا و رواجا، بالإضافة إلى هذا لا يمكن إحصاء الكتب والمقالات التي كتبت عن هذه النظرية. وإلى حدود عام 1971 كانت الفلسفة الإنجلوسكسونية خاضعة للفكر التحليلي مكرّسة بذلك للمنطق الفلسفي الابستيمولوجي، أمّا الفلسفة السياسية فكانت غير مؤثّرة بشكل عميق في التقليد الانجلوسكسوني حيث بقي المذهب النفعي هو المؤثّر من الناحية الأخلاقية والسياسية، إلاّ أنّه مع نظرية راولز للعدالة عرفت الفلسفة السياسية تجديدا وتحديثا، وهذا ما سيحاول هذا البحث رصده من خلال نظرية العدالة عند جون راولز، وذلك من خلال تحديد مبادئ العدالة ودورها في المجال السياسي العام؟ ومدى إمكانية نجاحها في تحقيق مجتمع ديمقراطي وعادل؟ ولكن هل يمكن الحديث عن العدالة في مجتمع يغلب عليه المذهب البراغماتي في السياسة ؟ والاتّجاه الليبرالي في السياسة والاقتصاد ... ؟ يقول كارل شميت " إنّ الفكر الليبرالي يتملّص ويتجاهل الدولة والسياسة ليتحرك في قطبين مختلفي الخصائص وهما الأخلاق والاقتصاد... بحيث يتحوّل إلى منافسة من جهة الاقتصاد، وإلى جدال من جهة العقل "1 لكن السؤال هو، هل هذا الحكم ملائم دائما للتطوّرات المعاصرة للفكر الليبرالي في أمريكا خاصّة فيما يتعلّق بالفيلسوف الأمريكي جون راولز؟ يقول راولز في فقرة النفعية التقليدية L'utilitarisme classique "هدفي هو إعداد نظرية في العدالة التي ستعيد تقديم حلّ في إعادة تغيير الفكر النفعي بصفة عامة، وكذا مختلف المشارب الموجودة"2 خاصّة و أنّ من بين ردود الفعل المنتظرة من قراءة كتاب نظرية العدالة لجون راولز هو الحصول على نظرية سياسية تؤسّس للديمقراطية الاجتماعية3 Sociale démocratie لكن بأيّ معنى ؟ ذلك أنّ إعادة إدخال شروط إلزامية للعدالة الاجتماعية لا يعني إلغاء حرّيات وحقوق الأفراد، بل ينبغي المحافظة عليها، ومن هنا فقط يمكن ولادة الإجماع، يقول راولز " كلّ شخص يملك حصانة قائمة على العدالة لا يمكن انتهاكها حتّى باسم رفاهية المجموعة "، و لكن ماهي الفرضيات التي تقوم عليها هذه النظرية ؟
« chaque personne possède une inviolabilité fondée sur la justice qui, même au nom du bien être de l’ensemble, ne peut être transgresse »

مفهوم الموقف الأصلي أو الوضعية الأصلية:
La position originelle
يتقاطع مفهوم الموقف الأصلي في نظرية العدالة، مع حالة الطبيعة في النظرية التقليدية للعقد الاجتماعي، ذلك ان النظريات التعاقدية تفترض حالة الفوضى والحرب والاضطراب التي كان يعيشها الأفراد في حالة الطبيعة، الشيء الذي أجبر فلاسفة العقد الاجتماعي على التعاقد وإنشاء مجتمع سياسي على النحو الذي صوّروه لنا، إلى هنا يبدو الموقف مماثلا، لكن راولز يطرح بعدا جديدا في نظريته، إنّه ما أسماه حجاب الجهالة la voile d’ignoronce . إلاّ أن ّالأشخاص المتفاوضين الذين تصوّرهم راولز وقد اجتمعوا ليتوصّلوا إلى مبادئ للعدل الذي سيتحكّم نشاطهم مستقبلا، يجهلون في نفس الوقت كلّ شيء عن نفسهم، ذلك أنّ كلّ شخص لا يعرف سوى المعلومات التي هي في هويته مثل إسمه، عمره، جنسيته والحقبة التي يعيش فيها كما يجهل قدراته البدنية أو العقلية فمجمل معرفته أنّه إنسان بغضّ النظر عن الاسم أو اللون أو الجنس أو العقيدة أو أي شيء من محدّدات الشخصية الفردية، ويعرف أيضا بموجب معرفته العامة إنّه باعتباره إنسانا، إذ يعرف أنّ له أهدافا، لكنّه لا يعلم ما هي على وجه التحديد ؟ إنّ ما توخّاه راولز من إضافة هذا البعد الجديد (حجاب الجهالة) هو أن تتمّ عملية التفاوض في جوّ محايد تماما، وأن يحول دون أن يتميّز أحد من المتفاوضين بأوضاعه الشخصية بحيث يصمّم مبادئ تلائم أحواله، بل يجب أن لا يختلّ ميزان العدالة الذي يروم تحصيل إجماع الأفراد على هذه المبادئ، ذلك أنّ "كلّ المتعاقدين يجهلون مفهومهم الخاصّ عن الخير وميولهم النفسية، وبهذا المعنى يمكن القول أنّ اختيارهم لمبادئ العدل يتمّ خلف حجاب الجهل"4. إذن فطالما أنّ كلّ المتفاوضون يجهلون أوضاعهم الخاصة فإنّه لا خوف من شخص طرح مبادئ غير موضوعية تخدم مصالح البعض على حساب مصالح الآخرين. هذا الموقف الذي نحن بصدد الحديث عنه والذي سيجد المتفاوضون فيه أنفسهم هو ما يسميه راولز بالموقف الأصلي la position originelle بحيث في هذا الموقف تكون هناك مجموعة متفاوضين كلّ فرد فيها يتميّز بالحكمة العامة والجهل الخاصّ، وكلّ واحد منهم يسعى إلى تحقيق مصلحته الشخصية لكنّه يجد نفسه عاجزا على التمييز بين ملامحه وملامح الآخرين، وفي ظلّ هذا الوضع لا بدّ لهم من أن يحاولوا بلوغ مبادئ للعدالة تنتفي فيها المفاضلة بين الأشخاص بحيث يمكن أن يستفيد منها أي إنسان أيّا كان، وبناءا على هذا يتمّ الاتّفاق بين كافّة المتفاوضين على ضرورة التزام الحياد إزاء المبادئ المطروحة وعدم تحيّزها، بل يتمّ اتّفاقهم حتّى على ضرورة وضع ذوي الميزات الأدنى في الحسبان في هذه المبادئ، ذلك أنّ أهميّة نظرية العدالة لا تتحقّق إلاّ حينما تأخذ مصلحة الفئة الأقلّ حرمانا والأكثر ضعفا5 هنا تطرح اقتراحات كثيرة للانتقاء ومنها مبادئ للعدالة ومن ثمّة تكون لهم مطلق الحرية في استعراض سائر مبادئ العدل التي عرفها تاريخ الفكر السياسي ليختاروا من بينها ما يلائم شروط عيشهم والظروف التي يتم فيها تفاوضهم، فبإمكانهم مثلا أن يتأمّلوا وجهة نظر القائلة : بأنّ "العدل هو العمل لمصلحة الأقوى أو الأكثر امتيازا " وبوسعهم أن ينظروا إلى وجهة نظر التي ترى أنّ الخير يكمن في الرقي بالجنس البشري، كما يمكنهم الاعتماد على وجهة النظر التي ترى أنّ العدل قوامه الانسجام التامّ مع الطبيعة والتناغم معها...، لكنّهم سيرفضون كلّ هذه الاقتراحات ووجهات النظر - حسب راولز- لأنّه لا أحد منهم سيقبل بأيّة مبادئ تميل للأقوياء أو المتفوقّين لأنّها ستكون ضدّه إذا أزيل عنه حجاب الجهالة، واكتشف وضعه السيّئ، أنّه من الضعفاء أو المتخلّفين، فهذه أسباب كافية لرفضها من طرف المتفاوضين، ويفترض راولز أنّهم ربّما يطرحون مذهب المنفعة العامة للنقاش والبحث لكنّهم سيرفضونه بسرعة في رأي راولز بحجّة أنّ هذا المذهب ظالم، لأنّه يسمح بالتضحية بحقوق البعض من أجل الرفاهية العامة وهذا المنطق مرفوض، فالإنسان لا يمكنه القبول بمذهب يمكن أن يهدّد أمنه الاجتماعي، ويعرضه للقهر في يوم من الأيّام من أجل المصلحة العامة أو غير المصلحة العامة، طالما أنّ هذا الإنسان هو شخص عقلاني وهدفه هو تحقيق مصلحته الخاصة، مثلما حال باقي أطراف الموقف الأصلي، وهكذا وبعد أخذ وردّ يرفض المتفاوضون المبادئ المطروحة، وما فيها من جور، وهي حقيقة يعلمها المتفاوضون حقّ العلم بمقتضى معلوماتهم العامة التي سبقت الإشارة إليها، وهو ما سيقطع مع فكرة التوزيع غير العادل للخيرات، ولكن كيف يحلّ راولز هذه المسألة مع العلم أنّ في المجتمع تضارب في المصالح ؟ بالإضافة إلى تشكيك أفراد المجتمع في إمكانية سنّ قاعدة تنظيمية يحصل بموجبها نوع من التطابق والتكامل في عملية تحقيق النفع العام؟ انطلاقا من هذا يمكن القول أنّ راولز يعارض التصوّر القائم على التفاوت بين الناس الذي تتدخّل فيه مجموعة من الاعتبارات "كالأصول الاجتماعية" أو" العرقية" أو "الجنسية" وغيرها، طبقية كانت أو سلطوية، مؤكّدا بذلك على ضرورة التوزيع المنصف للثروات، بمعنى أنّه لا يجوز أن تكون فئة مستفيدة بإحدى الطرق السابقة، أي أنّه ليس لهم الحقّ في اكتساب قدر أكبر من الثروات إلاّ إذا ظهر بأنّ ذلك سيفيد بشكل أو بآخر أولئك الذين لم ينالوا سوى قسطا ضئيلا (الطبقات المحرومة) من الخيرات والثروات. واضح أن راولز استقى مفهوم العدالة التوزيعية من فلسفة "أرسطو"، حيث تلتقي في كتابه الشهير عدّة أطياف فكرية قارّية و أنجلوساكسونية. واستعاد من "كانط" مفاهيم الاستقلالية والكونية، والاستعمال العموم للعقل "L'usage publique de raison ، كما يستحضر راولز نظرية التعاقد عند "روسو" وإن كان قد اعتبر نظريته على قدر كبير من التجريد. لكن ينبغي التنبيه بملاحظة في غاية من الأهمية، وهي أنّ "راولز" قد تجاوز كلّ البنيات الفلسفية السابقة، وهو ما ساعده على بلورة نظرية جديدة للعدالة، التي سيطرح من خلالها مشروعا نظريا لتجديد الليبرالية، ولإعادة التفكير في مستقبل الديمقراطية ذات المنحـى الليبـرالي في المجتمعات الما- بعد حداثية "Poste Modernité" المركّبة بنيتها ثقافيا عرقيا، وما تمخّض عن ذالك من أزمات وصراعات بين" دعاة المساواة" و"دعاة الحريات"، على قواعد أخلاقية للعدالة كإنصاف. ومن ثمّة رصد الاختلافات التي تخترق الجسم الاجتماعي الليبرالي. وانطلاقا من هذا، كيف يتصوّر راولز العدالة كإنصاف في ظلّ تعاظم الأنانية وتضخّم الفردانية واستشراء اللامبالاة السياسية "Dépolitisation"؟ ووفق أيّة مبادئ للعدالة؟
مبادئ للعدالة عند جون راولز:
خلافا للتصوّر الليبرالي المفرط لمسألة العدالة يقرّ راولز بإمكانية تحقّق العدالة كإنصاف، شرط الإيمان بمبدأ "التعاون" كعنصر استراتيجي لتوفير الرفاهية للجميع، أي أنّ راولز يحث على تحقيق البعد الاجتماعي في عملية إنتاج الخيرات مادامت، هاته الأخيرة ، ستوزّع بالتساوي على أفراد المجتمع (العدالة التوزيعية)، يبدو من خلال ما سبق أنّ راولز يضع "مبدأ التعاون" في مقابل "الروح الفردية"، فإذا كان من نتائج التعاون توحيد الصفوف وتكامل الأدوار وإنصاف جميع الأطراف، فإنّ من نتائج الفردانية، التشرذم وطغيان الذاتية والأنانية على مبدأ المصلحة العليا، وعندما نتحدّث عن تضارب المصالح فإنّنا نعني بذالك أنّ الأشخاص غير مهتمّين أو مبالين بالقواعد التي يتمّ بها توزيع محصول تعاونهم من جرّاء تلهفهم لتحقيق أهدافهم، فكلّ فرد يفضّل الحصول على الجزء الأكبر من هذه المزايا بدل الجزء الأقلّ، أي أنّ كلّ واحد يسعى إلى تحقيق مصلحته معتقدا أنّ مجهوده الخاص كفيل لبلوغ أهدافه وطموحاته وغاياته. ولهذه الأسباب وغيرها يتوصّل "راولز" إلى ضرورة وضع مقاربة جديدة لمفهوم العدالة يتسنّى من خلالها تحديد مبادئ أخلاقية وسياسية تشمل مختلف التصوّرات الممكنة لمسألة العدالة الاجتماعية وتكمّلها، بل إنّ العدالة كإنصاف، كما يرى راولز هي القاعدة التي ستضمن التوزيع العادل للخيرات وفق تصوّر أخلاقي ُيرضي الجميع، وذلك من خلال مبادئ العدالة الاجتماعية كما بلورها "جون راولز" والتي ستكون وسيلة فعّالة لتوحيد الحقوق والواجبات داخل المؤسّسات الأساسية للمجتمع، كما أنهّا ستساعد على التوزيع السليم والمتكافئ للأرباح. غير أنّه على الرغم من الاختلاف الملاحظ عند الأشخاص حول المبادئ التي يجب أن تكون بمثابة الأسس القاعدية لمجتمعهم، ومع ذلك فوجود الاختلافات لا يمنع من وجود نظرة خاصّة لكلّ واحد منهم للعدالة، بمعنى أنهّم يدركون الحاجة إلى هذه المبادئ وأنّهم مستعدون للدفاع عنها. هذه المبادئ تسمح بوضع الحقوق والواجبات الأساسية وتحقيق ما يعتقدون انه توزيع عادل للمزايا والأعباء الناتجة عن التعاون الاجتماعي، ولهذا يمكن القول إنّ مبادئ العدالة كإنصاف من شأنها أن تقدّم تصوّرا شاملا لكلّ التصوّرات المختلفة للعدالة وتحتويها في نفس الآن، بشكل يجعلها تتّخذ أبعادا قابلة للتطبيق عمليا داخل البنيات المؤسّساتية متى توفّرت الظروف المناسبة لذلك. فلا بدّ إذا من وجود تنسيق بين مشاريع الأشخاص حتّى يحصل انسجام بين الأعمال التي يقومون بها، وحتّى لا يتضرّر أحدهم، ومن جهة أخرى، فلتحقيق هذه المشاريع يتعيّن أن يسمح بالوصول إلى أهداف اجتماعية عن طريق استعمال وسائل تكون في ذات الوقت فعّالة وغير مخالفة للعدالة. وفي الأخير، فإنّ نظام التعاون الاجتماعي يجب أن يكون مستقرّا، وأن تحترم قوانينه الأساسية، يتّضح إذن أنّ هذه المسائل الثلاثة لها علاقة وطيدة بمبدأ العدالة، ففي غياب حدّ أدنى من التوافق بين ما هو عادل وما هو غير عادل سيكون من العسير علينا التنسيق بين الرغبات المختلفة. وانطلاقا من هذا تبرز أهميّة إيجاد قاعدة أساسية لبناء تصوّر معقول لمفهوم العدالة، من أجل إيجاد صيغ مشتركة تضمن الحرّيات الأساسية للأفراد والمساواة في توزيع الترواث، وتلك هي مبادئ العدالة كإنصاف.
إذن نظرية العدالة بما هي إنصاف عند "راولز" تتحدد فيما يلي:
1- كلّ الناس أحرار (الحرية) ولهم الحقّ في النسق الموسّع للحريات الأساسية بالتساوي (المساواة).
2- من الطبيعي أن تنتج عن هذا النسق الموسّع للحريات فوارق اجتماعية واقتصادية هائلة بين الناس لكن شريطة أن تنظّم بالكيفية التالية:
أ - أن تكون في مصلحة الأكثر حرمانا (
les plus défavorisés) أي ضحايا النظام الرأسمالي.
ب - أن تكون نابعة من مبدأ تكافؤ الفرص (
égalités des chances) في الوظائف. لا يرى راولز مانعا في بقاء اللامساواة لكن شرط أن تكون في مصلحة الأكثر حرمانا والأقلّ حظّا من الناس، وإذا كانت أيضا حصيلة تكافؤ الفرص التي يتيحها النظام الليبرالي الذي يكون قد قبل بمبدأ العدالة كإنصاف، وحصل توافق جماعي حول مبادئها التي نلخّص أهمّها في ما يلي:"المساواة، الحرية، التعاون الاجتماعي".
ومن هنا يتّضح أن هدف نظرية العدالة كإنصاف هو محاولة الإجابة عن الأسئلة المتعلّقة بإمكانية تحقيق مجتمع عادل يضمن لأفراده الحرية والمساواة، بحيث تكون الحدود المنصفة للتعاون موضع توافق بين المواطنين أنفسهم مادام الدخول لمجتمع التعاون يفترض المرور بمرحلة الوضعية الأصلية كإجراء لعرض نظرية العدالة كإنصاف. إذن فما هي مبادئ العدالة التي على أساسها سيكون التوزيع منصفا بين أفراد المجتمع، لما أسماه راولز المنافع الأساسية مثلا: الحقوق و السلطات والفرص والدخل والثروة، ومخوّلات احترام الذات ... ببساطة تتمثّل حسب جون راولز في المبادئ التالية:
- المبدأ الأوّل: لكلّ شخص أن يحصل على حقّ مُسَاوٍ في أكثر أشكال الحرية شمولا وأوسعها مدى، دون المساس بحرية الآخرين.
- المبدأ الثاني: يتم ّتسوية التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية بحيث تكون أعظمها نفعا لأقلّ المستفيدين، ويترتّب عليها مراكز ومناصب متاحة أمام الجميع تحت شروط المساواة العادلة في الفرص.
إنّ المبدأ الأوّل هو مبدأ الحرية المتساوية، يهدف إلى منح كلّ شخص حقّه وحريته السياسية الأساسية: كالحقّ في التصويت، وإمكانية شغل مناصب عامة، وحرية التعبير والرأي والفكر، والاجتماع والحقّ في الملكية الخاصة، واللجوء إلى القانون، وذلك دون النظر إلى وضعيته الاجتماعية. أمّا المبدأ الثاني فيتضمّن ما يسمّيه راولز بـ " المبدأ الليبرالي للمساواة المنصفة في الفرص" إذ يقتضي حصول الجميع على فرص متكافئة للمنافسة على شتّى المناصب. هنا يدرك راولز أنّ هذا التنافس يحسم بنتيجة تكمن في حصول البعض على مواقع وثروات مماّ يسمح بظهور فروق اجتماعية، لكن داخل إطار محكوم بتكافؤ الفرص. المشكل بالنسبة لراولز هو السماح بوجود تفاوتات شريطة أن لا يخلق هذا مجتمع فئة محرومة من حقّها في الحصول على حقوقها الكاملة والفرص الأساسية لحساب فئة أخرى تتمتّع بامتيازات. ومن أجل تحقيق هذا المجتمع دعا إلى المساواة الديمقراطية
L’égalité démocratique. انطلاقا ممّا تقدم وتأسيسا عليه، يمكن القول، وأنّه لا يمكن التضحية بالمبدأ الأوّل لفائدة الثاني، فللمساواة في الحرية أسبقية عن المساواة في الفرص، ولهذه الأخيرة أولوية على التوزيع المتساوي للثروات، وداخل كلّ واحدة منها لا يقبل التفاوت ولا تقبل اللامساواة إلاّ إذا كان سيستفيد منها أولئك الذين هم أكثر تعرّضا للحرمان والضعف والفقر من غيرهم، وانطلاقا من هذه المبادئ سيتمّ التوزيع العادل للمنافع الأساسية حسب راولز كأهمّ نقطة عملية نحو استعادة العدالة داخل كل مجتمعات الحديثة.



الطيّب بوعزّة
هل يمكن الحديث عن وجود أخلاق ليبرالية ؟ أم أن الليبرالية بوصفها نزعة تحررية فردانية تناقض ماهية النسق الأخلاقي بما هو نسق يقوم على الإلزام ؟ لكن هل بإمكان الليبرالية أن تبلور نظرية مجتمعية دون استشعار الحاجة إلى تأسيس منظومة أخلاقية ؟ ليس ثمة تحليل نقدي وُجِّهَ إلى الفلسفة الاجتماعية الليبرالية إلا وانتبه إلى هامشية القيمة الأخلاقية في رؤيتها لما ينبغي أن ينظم علاقة الأفراد، ونوع القيم التي يجب أن تضبط ترابطهم داخل المجتمع. لذا حق لنا أن نصحب عنوان مقالنا هذا بعلامة تعجب؛ ذلك لأن نسب الأخلاق إلى الليبرالية أمر مشكوك فيه ابتداء، فالخلق مجموع من القيم والقواعد الواجب امتثالها من قبل الفرد في سلوكه وعلاقاته مع الآخر، وبين التخلق والتحرر فاصل ومائز دلالي وفعلي لا سبيل إلى إنكارهما. قد يقال دفاعا عن تلازم الحرية والأخلاق، إن الكائن الإنساني ما كان كائنا أخلاقيا إلا لكونه حرا، فالأخلاق فضلا عن طابعها الإلزامي هي أيضا التزام نابع عن قدرة على الامتثال للقيمة الخلقية أو خرقها. ولا يمكن أن نحكم على سلوك ما بكونه امتثالا للقيمة أو خرقا لها إلا إذا كان صادرا عن ذات مختارة لا ملزمة. ولهذا فالسلوك الحيواني لا يندرج ضمن السلوك الأخلاقي؛ لأنه صادر عن فعل غريزي. وهذا في تقديري صحيح، لكننا هنا لا نتحدث عن مقوم الفعل بل عن مبدأ المذهب، فالليبرالية بوصفها مذهبا يطلق الفردانية من أي ضابط قيمي غير ضابط المنفعة المحددة كميا، أراها تتضاد مع أساس القيم الأخلاقية. ومن هنا يجوز لنا القول إنها كفلسفة اقتصادية أو نسق مجتمعي تقف مهزوزة أمام سؤال الأخلاق؛ لأنه ليس لها في مرجعيتها النظرية، ولا في تطبيقها المجتمعي ما يمكن أن يسند القيم الأخلاقية بما هي التزام يتعالى على النفعية الفردانية. فالرؤية الليبرالية للاجتماع تتأسس على منظور فرداني يقصد الربح المادي والمنفعة الشخصية؛ وبذلك فهي عاجزة عن تبرير ذاتها كفلسفة تقصد بناء الحياة المجتمعية، لاحتياج هذه الحياة ولابد إلى الأساس الأخلاقي المتعالي على المصلحة الفردانية، أساس شارط لها لا مشروطا بها.
موريس فلامان ونظرية الأخلاق العملية
الواقع أن هذا الاختلال الذي يعاني منه مفهوم القيمة الأخلاقية داخل النسق الفلسفي الليبرالي لا يعيه ناقدو الليبرالية فقط، بل يستشعره حتى دعاتها. ولنأخذ كدليل على ذلك المؤرخ الليبرالي موريس فلامان في كتابه "تاريخ الليبرالية"، حيث نجده يستحضر النقد الأخلاقي الموجه لمذهبه، وبعد أن يعترف بأن هذا النقد من أكثر الانتقادات تداولا حول الفلسفة الليبرالية، يحاول الدفاع عن أخلاقياتها، من خلال ما أسماه بوجود "أخلاق عملية"! فما هي محددات الأخلاق العملية الليبرالية؟
يرى فلامان أنها ثلاثة هي:
1-
التأكيد على فعل الادخار، الأمر الذي يستلزم نوعا من التقشف.
2-
احترام العقود المكتوبة وغيرها (كاحترام الكلمة)، وهو ما كان يعكس منذ القديم الاحتراس من خيانتها.
3-
المسؤولية: بحيث أن الإخفاق البسيط يجب أن يؤدي صاحبه الثمن عليه. هذا هو دفاع فلامان عن أن الليبرالية لها أخلاق. لكن عندي هنا ملاحظتان اثنتان، الأولى شكلية، والثانية مضمونية: أما من حيث شكل دفاعه، فأرى أن ما كتبه فلامان هو بحد ذاته توكيد على هامشية الأخلاق في المنظومة الفلسفية الليبرالية، وآية ذلك أن الصفحات التي خصصها لبحث المسألة الأخلاقية لم تجاوز صفحة ونصف! ويكفي هذا دليلا عكسيا على ما حاول فلامان إثباته، فدفاعه عن وجود أخلاقية ليبرالية جاء على قدر من الاحتشام والانكماش والاختزال، فكان بذلك دالا على غياب ما أراد التوكيد على حضوره! أما الملاحظة الثانية، فإن هذه المبادئ الأخلاقية ذاتها، التي أعلنها كبرهان على وجود أخلاق ليبرالية، ودليلا للدفاع عنها ضد الانتقادات الموجهة لها، نراها تفتقر إلى المبدئية الأخلاقية، حيث أنها مصوغة بلغة تجارية لا تفرق بين التعاقد الإنساني حول مثل الحياة وقيمها، وبين التعاقد التجاري القائم على مفاهيم الثمن والبيع والشراء ومقدار الادخار. لنتأمل مبدأ المسؤولية الذي هو محدد أساس من محددات الفعل الأخلاقي، ولننظر كيف ابتذله فلامان بتأسيسه على مفهوم الثمن حيث يقول مفسرا إياه: "إن الإخفاق البسيط يجب أن يؤدي صاحبه الثمن عليه"، وكذلك الشأن بالنسبة للمبدأين الآخرين (التأكيد على فعل الادخار، واحترام العقود)؛ إنها مفاهيم تفضح بصريح بنيتها اللسانية الابتذال الاقتصادي للقيم الأخلاقية من قبل الفلاسفة الليبراليين. إن دفاع فلامان عن الأخلاقية الليبرالية، ودفاع غيره من الليبراليين، يكشف عن أن أفضل ما يؤكد الإفلاس الأخلاقي لليبرالية هو استحضار دفاع الليبراليين عن أخلاقيات مذهبهم؟! فبعض المدافعين يحرص على القول بأن الليبرالية محايدة فيما يخص الأخلاق (مبدأ الحياد الأخلاقي)، وهذا أيضا دفاع معكوس يثبت ما يحسب أنه ينفيه. فالحياد الأخلاقي الذي تزعمه الليبرالية لنفسها هو إثبات لعجزها عن تأسيس المسألة الأخلاقية على نحو يبلور نظرية قابلة لأن تتسمى حقا بالأخلاقية. فما اختارت الحياد إلا لعجزها عن إيجاد نقطة ارتكاز لموضعة موقفها وترسيخه.
نظرية الأخلاق عند جيريمي بنتام
كما أن ما يؤكد إفلاس هذه النزعة المذهبية هو النظر في مرجعيتها الفلسفية، وبحث أصولها النظرية التي سعت إلى التأسيس والتنظير للمحدد الأخلاقي؛ حيث سنجد أن ما انتهت إليه يثبت عدم استحقاق نتاجها لأن يسمى فلسفة أخلاقية أصلا. ودليلي على ذلك هو النظر في أكبر أصل نظري للأخلاق الليبرالية، ذاك الذي يتمثل في الإسهام الفلسفي لجيريمي بنتام، إذ هو يعد في هذا السياق اسما مرجعيا من جهتين: من جهة ريادته؛ حين كان أول من وسع من المنظور الليبرالي ونقله من مستوى التفكير في العلاقة السياسة، إلى بحث العلاقة الأخلاقية. ومن جهة ثانية؛ لأنه كان أول من أسس نسقا نظريا أخلاقيا مترابطا، لم ينحصر في تحديد المبادئ، بل وصل إلى حد التأسيس لمعايير قياسها.
لقد انتهى بنتام، بنزعة موغلة في تجريد القيم الأخلاقية من كل أساس مرجعي متعال، إلى أن المبدأ الأخلاقي الوحيد هو مبدأ المنفعة بمدلوله الخاص الفردي، ولم يستطع التخفيف من فردانية نزعته بتوكيده على دور الدولة في ضمان النفع لأكبر عدد من الأفراد.
فهو في منطقه يخلص إلى أنه يجب على الفرد أن يتحقق من المنفعة التي تعود عليه هو ذاته من الفعل قبل أن يقوم به.
ووفق هذا المنظور المادي سيذهب بنتام، مستندا على هيلفيتيوس وبريستلي، إلى التأسيس "لعلم حساب اللذة والآلام"، قاصدا أن يكون معيارا لقياس السلوك الأخلاقي والعملي قياسا كميا. وبما أن المبدئية الأخلاقية هي المنفعة، فقد كان لازما على هذا العلم أن يؤسس لطريقة تمكن من قياس اللذة، تلك التي يصنفها بنتام إلى نوعين "متجانسة" و"غير متجانسة". فالأولى يمكن قياسها كميا من خلال سبعة محددات هي:
1-
المدة: وهو محدد لقياس المدة الزمنية للذة، فاللذة المستمرة أو الممتدة زمنيا أفضل من اللذة العابرة.
2-
الشدة: أي قياس مدى قوة اللذة أو ضعفها.
3-
التيقن من الإنجاز: حيث أن اللذة المؤكد حصولها أفضل من تلك التي نشك في إنجازها.
4-
القرب: أي أن اللذة العاجلة أفضل من اللذة الآجلة.
5-
الخصب: أي النظر في مدى أن تثمر اللذة لذات أخرى.
6-
الصفاء: أي أن تكون اللذة خالصة غير مصحوبة بالألم.
7-
الامتداد: أي قياس مدى تعدي اللذة من الفرد إلى حصولها من أفراد آخرين.
ولا يعني مبدأ الامتداد هذا أن بنتام ينقذ أخلاقيته من الفردانية، بل إنه هو نفسه يحرص في شرحه لمبدئه على القول بأن الفرد عندما يقصد تحقيق منفعته فإنه "عفويا" يطلب لغيره اللذة، ولا يطلبها له قصدا، لأن منفعة التاجر مرتبطة بمنفعة المشتري من جهة غير قصدية. لكن هذا لا يمنع من القول صراحة إن مفهوم الغيرية حاضر في الوعي الأخلاقي البنتامي، وإن لم نجد له ضمن نسقه ما يدعمه فعليا. ويحرص بنتام على التوكيد أن مقياس الكم قابل لقياس ما يسميه باللذات المتجانسة، غير أنه عندما يبحث اللذات غير المتجانسة، كلذة القراءة مثلا وغيرها فإنه اعترف بصعوبة حسابها كميا. لذا نجده يبحث عن مقياس آخر يقاربها به.
لكن لا ينبغي أن يذهب الظن بالقارئ إلى أن المقياس الذي سيقترحه بنتام لقياس اللذات غير المتجانسة سيكون مقياسا معياريا قيميا وغير كمي، بل هو أكثر إيغالا في التكميم مما يظنه بنتام نفسه. والمفارقة المثيرة للانتباه هي أن المقياس البديل الذي وضعه لا يخرج بتاتا عن الرؤية الكمية النفعية التي تحكم منظوره الليبرالي ككل؛ ذلك لأنه رأى أن هذه اللذات غير المتجانسة يمكن قياسها بـ"المال"!
أي أنه يجب على الفرد أن يقيس تلك اللذة بمقدار ما يصرفه من مال لتحصيلها، فإذا كان المبلغ المالي الذي تحتاجه مكلفا يجب أن يعرض عنها إلى لذة أقل منها كلفة. هذه هي خلاصة الفلسفة الأخلاقية البنتامية التي تشكل الأساس المرجعي للمنظور الليبرالي، وتأمل هذه الفلسفة يكفي كدليل على هامشية الأخلاق في نسقها التصوري والاجتماعي. وحتى محاولة التخفيف من لا أخلاقيتها بسبب نزعتها الفردانية التي قام بها جون ستيورات مل لا نجد لها ما صدقها في المنظور والواقع الليبرالي اليوم، فالأخلاق لم تعد قيما عليا والتزاما، بل مجرد قيم تجارية تقاس كميا بمبدأ المنفعة في مردودها الفردي.
الأخلاق الأبيقورية والأخلاق الليبرالية
لذا يصح أن نقول إن الفلسفة الأخلاقية الليبرالية هي في جوهرها لا أخلاقية، بل لن نبالغ لو قلنا إنه لم يسبق لمذهب فلسفي أن ابتذل الأخلاق وحول قيمها إلى أن تُعايَرَ بأوراق البنكنوت، مثلما فعلت الليبرالية بنزعتها البنتامية الموغلة في الرؤية النفعية.
فحتى المذهب الأبيقوري -الذي يُشاع عنه كونه مذهب اللذة- لم يسقط في هذا المزلق، والنظر المقارن يكشف أن الأخلاق الليبرالية أخس من الأخلاق الأبيقورية، وما خلص إليه بنتام هو أكثر إيغالا في حسية مبدأ المنفعة واللذة. وهذا ما لم يقل به حتى الحكيم الإغريقي أبيقور الذي يُعد عند الكثير من المتحدثين عن نظريته الأخلاقية مثالا للميوعة والإيغال في اللذة. وهنا لا بد أن نصحح أولا هذا التأويل الخاطئ للفلسفة الأبيقورية، لأنه يقوم على تحريف لدلالات نصوصها، إذ اللذة عند أبيقور إن كانت مطلبا طبيعيا وغريزيا، فإن الحكمة تقتضي -حسب أبيقور- أن نقنع بحد أدنى من اللذات، أي تلك التي تكون طبيعية وضرورية. بل إنه يذهب موغلا في تقشف الحكماء إلى أن الجنس لذة غير ضرورية، حين يميز بين اللذات الحسية والمعنوية، رائيا أن الفعل البشري يقصد بالأساس اجتناب الألم، واضطرابات النفس، وعند غياب الألم لا يشعر بالحاجة إلى اللذة. إن الفلسفة الأبيقورية هي نفي للحاجة إلى اللذة باستبعاد الألم، إذ اللذة عندها هي أن يعيش الإنسان في "سلام روحي"، مجتنبا الألم، ومقللا من حاجاته إلى أقصى حد ممكن، وهذا هو المعنى الأخلاقي العميق الذي ذهل عنه الفكر الشائع المؤول للأبيقورية تأويلا محرفا. وفي سياق المقارنة بين الأخلاقيتين الأبيقورية والليبرالية، لا بد أن نشير إلى أن أبيقور يميز، في بحثه في النفس الإنسانية، بين نوعين من الرغبات: طبيعية وعبثية، بينما الليبرالية ليس عندها أي تمييز مبدئي، فكل رغبة/طلب عندهم، ولو كانت عبثا، تجب الاستجابة لها في السوق بالعرض، من أجل تحقيق الربح المادي. بل إن صناعة الذوق الاستهلاكي عن طريق الأنظمة الإشهارية التي يعتمد عليها النسق الاقتصادي الليبرالي، يذهب إلى خلق رغبات عبثية، وتحويلها إلى حاجات وعوائد استهلاكية من أجل إدخال الفرد في دوامة النمط الاستهلاكي. وتأسيسا على ما سبق فإن "الأخلاق" الليبرالية هي الأحق بأن تُنعت بالأبيقورية –بمدلولها الشائع كطلب للالتذاذ الحسي والنزوع الفرداني- لأنها تنظر إلى الكائن الإنساني كجسد، وتستجيب له بوصفه كينونة جسدية ذات غرائز تطلب الالتذاذ والإشباع. هذا دون أن تضع في الاعتبار الأبعاد المعنوية في كينونة الإنسان، وهي الأبعاد التي أبصرتها الحكمة الدينية والفلسفية منذ أقدم تجلياتها الفكرية.
وخلاصة القول: إن الليبرالية اليوم ليست في مبدئها الأخلاقي -أو اللاأخلاقي- إلا امتثالا لمقولات بنتام، ولن نبالغ لو قلنا بلغة الاستهجان إنه إذا جاز لليبراليين أن يفخروا بشيء في مسألة الأخلاق، فليفخروا بالمقياس الكمي البنتامي، إذ أكدوا بذلك أنهم الوحيدون – من دون أهل النظر والفكر- الذين استطاعوا أن يمسخوا القيم والمبادئ الأخلاقية ويعبئوها داخل كم قابل للقياس. ولا عبرة بتمييزهم بين أنواع القيم، فقد ذهب مؤسس النظرية الأخلاقية الليبرالية جيريمي بنتام إلى القبض حتى على القيم، التي اعترف بكونها غير قابلة للقياس الكمي، فقاسها بالمقدار المالي! لكننا نضع هنا سؤالا لعله يهجس بداخل الوعي الليبرالي: هل تبقى ثمة قيمة أخلاقية عندما توزن بالكيلو وتعاير بالدولار؟


جون راولز John Rawls 1/2
تقديم وترجمة محمد هاشمي
التقديم: لماذا وقع اختياري على راولز؟
لأنه يُعتبر أحد الوجوه البارزة المنخرطة في النقاش السياسي المحتدم حول مشروعية الليبرالية السياسية (Le Libéralisme Politique) وحول مستقبل الديمقراطية في العالم المعاصر ومآلات الحداثة السياسية وما تخللها من أزمات وتوترات بين الحرية والمساواة، بين الفرد والدولة، بين العدالة والخير، بين الاستقلالية والعمومية، بين الدائرة الخصوصية والفضاء العمومي. ضمن كتابه الشهير نظرية العدالة (Théorie de la Justice) يعرض فلسفته التي تُعْتَبر محاولة لتجديد الليبرالية السياسية المعاصرة، ولتليين وتلطيف جموحها بما يتلاءم مع المبادئ الأخلاقية للعدالة والإنصاف (Equité). تتموقع فلسفته السياسية اللبيرالية ما بين الليبرالية الراديكالية، وبين الجماعتية (Communitarisme) بوصفهما منزعان أحدهما مفرط في الليبرالية (Libéralisme) والآخر منتقد لها. يعود اختياري لراولز إذن إلى كونه أحد الفلاسفة السياسيين القلائل الذين فتحوا نقاشا سياسيا واسعا في الولايات المتحدة الأمريكية بين الليبرالية اليسارية المناهضة للفوارق وما تمثله من مخاطر على التماسك الاجتماعي والتوافق السياسي، وبين النيوليبرالية (Néolibéralisme) المناهضة للعدالة التوزيعية وما تمثله من مخاطر على الحريات الفردية. وقد تغذى هذا النقاش فضلا عن ذلك مما أفرزته الحركات من أجل الحقوق المدنية (Droit Civiques) من مطالب مساواتية في الولايات المتحدة الأمريكية نهاية الستينات وبداية السبعينات. كما تمخضت هذه المناقشات والمُطَارَحَات السياسية (Débats politiques) عن إعادة التفكير في دور الدولة الليبرالية، وبرزت أسئلة حول حيادها (Neutralité) وانخراطها في معمعة المطالب الاجتماعية.
نظرية العدالة تلتقي في كتابه الشهير هذا عدّة أطياف فكرية قادمة من آفاق فلسفية رحبة أَنْجْلُوساكسونية وقارِّية على حد سواء. استقى راولز مفهوم العدالة التوزيعيةJustice) .Distributive) من أرسطو وإن كان قد أفرغها من حمولتها الأخلاقية، ومَتَحَ من كانط مفاهيم الاستقلالية (Autonomie) والكونية والإستعمال العمومي للعقل (L’usage publique de la raison).
يقول راولز:
«Le sujet est essentiellement un agent souverain qu’effectue des choix, et en particulier se donne à lui même ses propres fins» P. 198 Rawls
استلهم راولز كانطية بدون ذات متعالية على حد تعبير بول ريكور:
«Kantisme sans sujet transcendental»
واستفاد من نظرية التعاقد عند روسو وإن كان قد اعتبر نظرية العدالة على قدر كبير من التجريد. وأخيرا استلهم من النفعية والبراجماتية الأنجلوسكسونية. يطرح الكاتب مشروعا نظريا لتجديد الليبرالية، ولإعادة التفكير في مستقبل الديمقراطية ذات المنحى الليبرالي في المجتمعات المابعد-حداثية (S post-modernes) المركبة هوياتيا والمتعددة ثقافيا (Multiculturalisme) وما تمخضت عنه من أزمة وصراع بين المنزع المساواتي والمنزع الحرياتي (Egalitarisme, Libértarisme)، ومن ثمة رصد الاختلالات التي تخترق الجسم الاجتماعي الليبرالي. يسعى هذا المشروع النظري عند راولز إلى خلق توازانات جديدة بين الحرية والمساواة على قواعد أخلاقية للعدالة كإنصاف (La justice comme équité). إن مدار نظرية العدالة هو معالجة الانحرافات (Dérives) التي آلت إليها الليبرالية السياسية، والتشوهات التي نالت من الديمقراطية الليبرالية، والمخاطر التي تتربص بالحداثة السياسية في عالمنا المعاصر، وكلها بادية للعيان في تجلياتها المختلفة: تعاظم الأنانية وتضحم الفردانية الاستحواذية (Egoisme possessif) وتفكك الأواصر الاجتماعية وانحسار مفهوم المواطنة واستشراء اللامبالاة السياسية (Dépolitisation) وتضخم الحرية على حساب المساواة. كلها انحرفات تجعل نهج الليبرالية السياسية محفوفا بالمخاطر.
يتسم هذا المشروع النظري بعودة السؤال الأخلاقي إلى صلب الإشكالية السياسية: إعـادة تفكير في الليبرالية السياسية في المجتمعات ما بعد- الحداثية بناء على أسس العدالة، للحيلولة دون استشراء النزعة الأداتية-النفعية (Utilitarisme) والفردانية الاستحواذية ومسألة التعدد الثقافي والهوياتي (Multiculture identitaire) أو حسب تعبير ماكس فيبر (Polythèisme) وتضارب تصورات الخير (Conceptions du bien) في سبيل استشراف آفاق الديمقراطية التوافقية؛ ومحاولة التوفيق بين المذاهب الغائية للخير والمذاهب الإستعمالية والأداتية لمفهوم المنفعة. يطرح راولز في كتابه نظرية سياسية ذات منحى ليبرالي ولكن بمراجعة المبادئ الليبرالية على ضوء المبادئ الأخلاقية. يضع راولز مفهوم "العدالة" في صلب نظريته السياسية، إذ يعتبرها الفضيلة الأولى للمؤسسات السياسية؛ لا للقواعد الدستورية منها فحسب، بل أيضا للبنيات القاعدية السوسيو- اقتصادية للمجتمع. لا مُسَوِّغ، في مجتمع مهما كان يتبجح بالحرية، لسياسة ليبرالية ما تنفك تخلق الإختلالات، وتعمق الفوارق بين الأفراد. فالعدالة هي بمثابة الترياق "Contre-poison" للإختلال الذي يسببه الفائض الحرياتي في المجتمعات الليبرالية على حساب المطلب المساواتي؛ تلعب دور تصحيح وتصويب ما آلت إليه هاته المجتمعات من فوارق وتفاوتات تنسف وعود الحداثة السياسية بالتحرر من أساسها. تمثل العدالة القاعدة الأساسية لكل مجتمع منظَّم عقلانيا يروم إرضاء النفع العام وينال رضى كل المتعاقدين (Sociétaires) المنضوين فيه تحت تعاقد مضمر أو معلن. ويستنتج أن العدالة أسبق من الخير (Primauté du juste sur le bien) بدليل أن الأولى توحد، والخير يفرق: فلا يختلف البشر حول شيء مثل اختلافهم حول تصورات الخير ولا يجمعهم ولا يوحدهم شيء أكثر من العدالة؛ فهي أول ما يحدسه كل انسان. فضلا عن ذلك؛ لا يستقيم مفهوم الخير في المجتمعات الما - بعد حداثية التي يسودها التعدد الثقافي والعقائدي (المذهبي). ولا سبيل إلى توحيد هذا التعدد سوى بفضل مفهوم العدالة بما هي إنصاف. شتان إذن بين كونية مفهوم العدالة وخصوصية مفهوم الخير. فما يمكن أن يراه بعضهم خيرا، قد يراه الآخرون وَبَالاً وشرا. أما العدالة فتحظى بإجماع الكل. فهي تحافظ على اختلافاتهم دون أن تفضي إلى الانشقاق والتمزق الذي يهدد المجتمعات الليبرالية. ومـادام الأمر كذلك فالعدالة عند راولز إجرائية (Justice Procédurale) لا تحيل إلى أي تصور جوهراني "substantialiste"، إنها بالأحرى عدالة توزيعية (J.Distributive) وإنصاف في مجتمعات تعمقت فيها الفوارق (Inégalités) واتسعت الهوة بين المحرومين والمحظوظين إلى حد أن المبدأ الحرياتي الليبرالي بات مهددا، وبدأت تحوم الشكوك حول جدوى الحرية بالنسبة لمن لا يملك شيئا، ولمن هو في الدَّرَك الأسفل في المجتمع، فما عسى أن تمثل قيمة الحرية بالنسبة إليه وهو لايجد ما يضمن كرامته. ولعل في هذه الحالة ينطبق النقد الماركسي على الحرية الليبرالية لكونها حرية مجردة. وصارت الديمقراطية نفسها تحدق بها مخاطر جمة: ولعل هذا ما يفسر اللامبالاة المتنامية للمواطنين بالشأن العام، وعدم الإكتراث المتزايد بالسياسة، وانحسار روح المواطنة وانتشار نوع من الرواقية (Stoïcisme) والقدرية، واتساع دائرة الشك والارتياب في الحداثة السياسية، واللُّهاث وراء نوع من اللذية (Hédonisme). يرمي راولز من وراء نظريته السياسية إلى بعث الأمل في الليبرالية السياسية من جديد وإلى إحلال توازنات جديدة بين الحقوق - الحريات والحقوق - الواجبات، فالعدالة هي البلسم الذي يشفي الحداثة الليبرالية من أدوائها، وينجيها من أمراضها. فهناك نبرة متفائلة لدى راولز في أن تنفخ العدالة بما هي إنصاف روحا جديدة في الليبرالية، وفي أن توفق بين متناقضات الحداثة والديمقراطية: بين الحرية والمساواة. باعتبار أن راولز فيلسوف سياسي ليبرالي، فإنه لا يُفَرِّط في مبدإ الحرية بأي ثمن، ولا يمكن التضحية بالحريات الأساسية والفردية حتى لو كانت في مصلحة الجميع، لأن من شأن ذلك أن يُشرع الباب على مصراعيه للأنظمة التوتاليتارية والكليانية(Totalitarismes) التي تتذرع بشتى المبررات لمصادرة الحريات وهضم حقوق الإنسان.
"لايمكن تقليص الحرية سوى في سبيل الحرية"
"On ne peut restreindre la liberté qu’au bénéfice de la liberté" p.140 IBID
" لا يمكن دفع الحرية ثمنا للحياة الرغيدة "
"On n’achète pas le bien - être au prix de la liberté" 140 (MBID)
ولكن راولز في نفس الوقت لايقبل الفوارق الناجمة عن توسيع النظام العام للحريات الأساسية. فالفوارق المقبولة والمستساغة أو المسموح بها "Tolérables" هي تلك التي في مصلحة الجميع، وما الظلم أو الجور (Injustice) في الحقيقة سوى تلك الفوارق التي لا تعود بالفضل على الجميع أي تلك التي تفيد البعض دون البعض الآخر.
"L’injustice, ce sont les Inégalités qui ne bénéficient pas à tous" page 150 (MBID)
ومع ذلك يظل راولز فيلسوفا ليبراليا، فهو يَسْتَسْوِغُ اللامساواة لأنها ثمن الحرية، حتى وإن كان يشرطها بمصلحة الجميع. من غير المعقول انتزاع ما يعود إلى المحظوظين الأكثر إنتاجا ومنحه للمحرومين الأقل إنتاجا لأن في نهاية المطاف لن يوجد ما يمكن اقتسامه أو توزيعه، فالأكثر إنتاجا سيصبحون أقل إنتاجا، وهذا نقد مبطن للإشتراكية والشيوعية، لا يمكن التفريط في الحرية من أجل المساواة مهما كانت الدواعي والمبررات. فاللامساواة هي الثمن الذي يتوجب دفعه لنيل الحرية والحيلولة دون الإنزلاق إلى التوتاليتارية. يفضل راولز أن يوجَد ضحايا في النظام الليبرالي على أن تصادر الحريات في الأنظمة التوتاليتارية. ويفترق راولز، رغم ليبراليته عن الليبرتارية Libertarisme في مسألة هامة؛ والتي تتعلق بمفهوم الدولة، ومفهوم الديمقراطية، فلا يوافقها على مفهوم الدولة - المحايدة (L’Etat Neutre)، التي ينحصر دورها على حفظ الأمن وحماية النظام (L’ordre) وهو ما يصطلح عليه بـ"الدولة-الدَّرَكِيَّة" (Etat-Gendarme)، وفي نفس لا يستسوغ تدخل الدولة في كل دقيقة وجليلة أي الدولة-الوصية، ويختار موقفا وسطا وهو الدولة الإجتماعية (Etat Social) التي تعمل بمعية المجتمع المدني على تقليص الفوارق في حدود لا تتعداها، حتى لا تتطاول على الحريات. يقترح في نظريته السياسية ديمقراطية اجتماعية، أو ديمقراطية ليبرالية ذات وجه إنساني (A Visage Humain). وقبل التطرق إلى الديمقراطية بشكل مفصل يجمل بنا أن نتطرق مجددا، ونستأنف القول في المعادلة الصعبة بين المبدإ المساواتي والمبدإ الحرياتي. فنظرية العدالة التي يتطارحها بِمُكْنَتِها، ردم الهوة بين هذين المبدأين، وملء الشرخ الذي يتهدد المجتمعات الليبرالية بالإنفجار. يطرح راولز نظرية العدالة بما هي انصاف ويؤسسها على مبدئي التوحيد والتفريق:
أ- كل الناس أحرار (الحرية) ولهم الحق في النسق الموسع للحريات الأساسية بالتساواي (المساواة).
ب- من الطبيعي أن تنتج عن هذا النسق الموسع للحريات فوارق اجتماعية واقتصادية هائلة بين الناس لكن شريطة أن تُنَظَّم بكيفية:
1. تكون في مصلحة الأكثر حرمانا (Les plus défavorisés) أي ضحايا النظام الليبرالي
2. وتكون نابعة من مبدإ تكافؤ الفرص (Egalités des chances) في الوظائف وفي الوضعيات.
لا يرى راولز غضاضة في اللامساواة، إذا كانت في مصلحة الأكثر حرمانا والأقل حظا من الناس، وإذا كانت أيضا حصيلة تكافؤ الفرص التي يتيحها النظام الليبرالي. يستدل راولز على وجاهة وصواب نظريته في العدالة بحجة لم تخل من انتقادات من طرف كثيرين وعلى رأسهم هبرماس، والتي يسميها ب "حجاب الجهل" (le voile d’ignorance) ويُنَزِّلها منزلة الوضعية الأصلية للبشر(Position originelle): إذا أُخِذ البشر على حين غرّة وفيما هم على غفلة من أمرهم، وحيث لا يدرون شيئا عن فئتهم الإجتماعية، ولا عن حظوظهم وامتيازاتهم، وطلبنا منهم أن يختـاروا بين العدالة والخير (المنفعة) فهم لا شك سيختارون العدالة، لأنها بمثابة الحدس البديهي الذي لا يختلف فيه إثنان. فهذه الحالة أشبه بالتعاقد، وإن كان راولز لا يوافق أصحاب نظرية التعاقد على ما ذهبوا إليه من مذهب الحق الطبيعي الذي يساوونه مع القوة والقدرة والإقتدار. ويعتبر اختيار البشر للعدالة هو الاختيار العقلاني عن جدارة. لأن العدالة دمج بين الحرية والمساواة ولا يمكن تصور اختيار ما، يعارض كونهم أحرارًا ومتساوين أو أندادًا.
ما القول في الديمقراطية الليبرالية حسب التصور الراولزي"؟
من مرتكزات الديمقراطية الليبرالية ألا تطغى الأغلبية على الأقلية أو ما يسميه توكفيل بالاستبداد الحديث (Tyranie Moderne)، كما تفضل الليبرالية الديمقراطية التمثيلية على الديمقراطية المباشرة، والدستور على سيادة الشعب، والحقوق - الحريات على الحقوق - الواجبات. ورغم ذلك تعاني الديمقراطية من عجز (Déficit) يتمثل في انزواء وانصراف الفرد إلى دائرة حياته الخاصة، وفي اللامبالاة بالفضاء العمومي، وعدم الاكتراث بالسياسة وانخفاض حرارة الحس الوطني، واللهاث وراء اللذات أو ما يدعى باللذية (Hédonisme) وفي الاستسلام إلى نوع من الرواقية (Stoïcisme). حاول راولز استعادة الأمل الديمقراطي بفضل مفهوم العدالة التوزيعية التي تستهدف الفئات الأقل حظا والأكثر حرمانا في المجتمع، وإحياء ثقة المواطنين في المؤسسات الدستورية، وبعث التضامن في نفوس الأفراد الذي لا يكترثون سوى بأنانيتهم الاستحواذية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق