السبت، 7 ديسمبر 2013

نص لهيدغر حول تهديد الغير

تهديد الغير
إن التباعد باعتباره خاصية مميزة للوجود – مع – الغير، يلزم عنه أن الموجود – هنا يجد نفسه داخل وجود- مشترك يومي تحت قبضة الغير. إن الموجود – هنا، باعتباره وجودا فرديا خاصا، لا يكون مطابقا لذاته، عندما يوجد على نمط الوجود – مع- الغير، لأن الآخرين أفرغوه من كينونته الخاصة. فإمكانيات الوجود اليومية للموجود هنا، توجد تحت رحمة الغير. فالغير في هذه الحالة ليس أحدا متعينا، بل على العكس من ذلك، بامكان أي كان أن يمثله، فما يهم هو هذه الهيمنة الخفية التي يمارسها الغير على الوجود-هنا عندما يوجد مع الغير. فالذات نفسها عندما تنتمي إلى الغير تقوي بذلك من سلطته.
إن " الآخرين "، الذين نسميهم بهذا الاسم لإخفاء أننا ننتمي إليهم بشكل أساسي، هم الذين يوجدون منذ الوهلة الأولى، وفي الغالب، وفي الحياة المشتركة على نمط " الموجود-هنا".
في استعمالنا لوسائل النقل العمومية، أو في استفادتنا من الخدمات الإعلامية ( قراءة الصحف مثلا )، نجد أن كل واحد منا يشبه الآخر. فهذا الوجود- المشترك يذيب كليا الموجود – هنا، الذي هو وجودي الخاص، في نمط وجود الغير، بحيث يجعل الآخرين يختفون أكثر فأكثر ويفقدون ما يميزهم وما ينفردون به. عن وضعية اللامبالاة واللاتمييز التي يفرضها الوجود-مع-الغير، تسمح للضمير المبني للمجهول " on" أن يطور خاصيته الديكتاتورية التي تميزه.
إننا نتسلى ونلهو كما يتسلى " الناس " ويلهون، ونقرأ الكتب ونشاهد الأفلام، ونحكم على الأعمال الأدبية والفنية كما يقرأ الناس ويشاهدون الأفلام ويحكمون على الأعمال الأدبية، وننعزل عن الحشود كما ينعزل الناس عنها ونعتبر فضيحة ما يتعبره الناس كذلك ( ...)
يمكن أن نقول : لقد أريد هذا، كما يمكن أن نقول لا أحد أراد هذا فيصبح كل واحد هو آخر، ولا أحد هو هو ، إن المجهول الذي يجيب عن سؤال من هذا الموجود- هنا ليس شخصا متعينا، إنه لا أحد.
مارتن هايدجر، الوجود والزمن، الترجمة الفرنسية لبويم دي ويلهانس، غاليمار، 1964،ص: 158-160
Martin Heidegger, Etre et Temps.


 1- تــأطـيـر الــنـص:
النص عبارة عن مقاربة فلسفية مقتبس من كتاب" الوجود و الزمن"، وفيه يروم الفيلسوف الى ابراز معنى الوجود في العالم ومع الآخرين والتفكير في سؤال معنى الوجود، وذلك ببحثه في الوجود الإنساني الراهن والعيني  (Dasein)
2- صــاحــب الــنــص:
مارتن هايدجر فيلسوف ألماني ( 1889- 1976 ) و لد بقرية مسكرش – بالغابة السوداء – ونشا في أسرة مسيحية تنتسب إلى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، تشبع منذ صباه بتعاليم القديس توما الأكويني حيث كان يعد لنفسه لحياة الرهبنة لكنه عدل عن ذلك، وكرس نفسه لدراسة الرياضيات والعلو الطبيعية والفلسفة. التحق بجامعة فريبورغ ودرس على يد هوسرل، وأعد تحت إشرافه رسالة للدكتوراه عن نظرية المقولات والمعنى عند Duns scot، اهتم منذ ذلك الحين بالثراث الفلسفي القديم، ولم يلبث أن عين أستاذا للفلسفة بجامعة ماربورج سنة 1923، فعكف منذ ذلك الحين على تعمق مشكلة الوجود، واهتم بالكثير من المسائل الميتافيزيقية الأخرى، إلى أن تمكن سنة 1927 من إصدار الجزء الأول من كتابه الضخم المسمى باسم " الوجود والزمان"sein und zeit . هذا والتحق الفيلسوف بجامعة فريبورغ وعمل بها أستاذا مساعدا لهوسرل،ثم خلفا له سنة 1929.ظهرت له في تلك السنة أبحاث قيمة،أولها كتابه المشهور:"كانط و مشكلة ما بعد الطبيعة" ثم " ما تعيه العلة" وهي دراسة قدمها هيدجر الى أستاذه هوسرل بمناسبة بلوغه سن التقاعد.وأخيرا رسالة له بعنوان " ما الميتافيزيقا؟" وهي عبارة عن محاضرة ألقاها بجامعة فريبورج في 24 يوليوز1929، بيمناسبة تعيينه أستاذا بها خلفا لهوسرل.
ومن أهم كتابته الفلسفية ندكر: " هيلدرلن و ماهية الشعر" سنة 1936،" نظرية أفلاطون في الحقيقة" سنة 1942،" ماهية الحقيقة " سنة 1943، " رسالة في النزعة الانسانية " سنة 1947، " متاهات" سنة 1950، " ما الفلسفة ؟ " سنة 1955.
3- إشكال النص:
هل وجود الغير يمثل تهديدا بالنسبة للانا ؟
4- مفاهيم النص:
•الموجود- هنا: الأنا
•الوجود المشترك: المجتمع
•الوجود مع الغير: الحياة الاجتماعية التي ينخرط فيها الأنا مع الغير.
•الوجود مع الآخرين: هو ذلك النسيج الاجتماعي للموجود البشري بوصفه موجود يحيا دائما مع الآخرين Mitsein " والآخرون " أو " الغير " إنما هم أولئك الذين " أوجد " معهم، ويوجدون معي سواء بسواء.
•الكينونة: ما يمثل جوهر الكيان الشخصي لكل فرد والمقصود الخصوصية
On: ضمير مبني للمجهول يستعمل عادة في الأمثال و الحكم التي لا يعرف قائلوها والتي تعبر عن مجموع الآراء والمعتقدات التي يشترك فيها الجميع.
5- أطروحة النص:
إن حضور الغير في علاقته بالأنا هو إفراغ للذات من خصوصيتها وكينوناتها الفردية التي تميزها عن أخرى وتذيب كل الاختلافات  والتمايزات التي تفقد هويته التي تميزه في الحياة اليومية المشتركة مع الناس.
6- أفكار النص:
- الوجود مع الغير يجرد الأنا من خصوصياته ويقوي من سلطة الغير ويجعل الأنا مجرد جزء من الآخرين لا هوية له.
- التواجد مع الغير في مجتمع يجعل الأنا يشبه الآخرين فيذوب وجوده  الفردي في الوجود الاجتماعي ويصبح الموجود الحقيقي هو الآخرون وليس الأنا
 7- حجاج النص:
-أسلوب التوكيد:"إن التباعد باعتباره خاصية.."
-أسلوب التعليل:"...لان الآخرين أفرغوه من كينونته الخاصة"
-أسلوب الاستدراك:"بل على العكس من ذلك"
-أسلوب التمثيل:"قراءة الصحف مثلا"
-أسلوب التقابل: الموجود هنا#الغير/ وجودي الخاص#وجود الغير
 8- خلاصة تركيبية :
إن الوجود مع الآخرين لا يشكل ضرورة أنطولوجية لابراز الذات، ذلك أن وجود الغير في علاقته بالأنا ليس إلا إفراغا للذات وذوبان الفرد في حياة الجماعة. بحيث يفقد الشخص هويته التي تميزه في الحياة اليومية المشتركة مع الناس .
9- قــيـمـة الــنــص:
إن قيمة هذا النص تتجلى في رهان العلاقة الوجودية مع الغير وتصوره للانسان الحديث في علاقته مع الجمهور و انغماسه معهم، حيث أن هذا الأخير أصبح يعيش في حالة جماعية زائفة باتخاده من " الوجود مع الآخرين " ذريعة للتنازل عن وجوده الخاص ليصبح وجوده مجرد انغماس في عالم الجمهور. و هكذا فقد انسان العصر الحديث انسانيته و حريته، و صار مجرد موضوع ينطق بلسان الآخرين. لكن هذا الوجود الذي هو في نظر هيدجر انما هو ذلك الوجود الحقيقي الذي تشعر معه الذات بأنها قيمة بنفسها، مسؤولة عن ذاتها، وأنه قد خلى بينها و بين حريتها و أنه لا بد لها من أن تأخد على عاتقها تبعة وجودها.   
10- حدود النص:
جون بول سارتر:
 إن حضور الغير بالنسبة للأنا هو سلب للذات و قتل لعفويتها و ذلك بوصف الأنا موضوعا، فكل محاولة لادراك الغير هي مجاوزة للذات في فهم الآخر. فادراك الغير بوصفه أنا آخر مخالف لأناي هي علاقة بين أشياء لا علاقة بينهما.
    إن قيمة الموقف السارتري يتجلى في ما يراهن عليه الفيلسوف في فعل النظرة، ذلك أن فعل النظرة هو فعل مزدوج، فهو ضروري من أجل إدراكي كوعي و كذات. وفي الوقت نفسه يصبح هذا الفعل بمثابة قيد يحد من حرية الذات ليصبح الانسان عبدا أمام فعل هذا الأخير. لكن رغم عبوديته، فالفيلسوف يراهن على حرية الفرد واستقلالية الذات من تبعية هذا الاخير.
جيل دولوز:
 إن حضور الغير بالنسبة للأنا لا يشكل أنا آخر من حيث هو مخالف لطبيعة الأنا، و إنما بوصفه عالما ممكنا لا يظهر من خلاله الغير كذات  أو كموضوع و إنما يظهر بوصفه عالما لم يتحقق في بعده الواقعي.لكن رغم ذلك فهو عالم معبر عنه من خلال لغة معبر تمنح صفة الوجود لهذا العالم الممكن لينفتح أمام الذات و ينكشف هذا الآخر للأنا و ذلك بالتعبير عنه بلغة واقعية تجسد حقيقة هذا الآخر وتجعل من عالمه الممكن عالما قائما الذات.
غاستون بيرجي:
 تشكل الذات عالما  فردا من نوعه  في استقلال وانفصال عن الغير ، إذ لا يمكن سبر أغوار أحدهما  رغم حضورهما معا .  
-استحالة معرفة الغير من فضل  الحواجز والعوائق التي تنصبها الذات أمام الآخرين مما يجعلها ذاتا  مبهمة أو شاذة تستعصي على الإدراك والمعرفة .
-لا يمكن معرفة الغير كذاتي ، لأنه وإن كان شبيها لي فإنه ليس مثلي ، وهنا تطرح مسألة الاختلاف وأن الغير لا يمكن أن يماثل الذات و إنما يختلف عنها ، وهذا الاختلاف يخرج الغير من دائرة المعرفة والضبط والإحكام 
 استحالة معرفة الغير  تطرح لنا مسالة  عزلة الأنا الذي  له إمكانية  الاستغناء  عن الآخرين وبالتالي نسقط في الفر دانية المتطرفة أو الأنا وحدية ، مما يجعل مسألة التعايش والتفاهم مستحيلة ما دام لا يوجد أساس مشترك يمكن أن نتفق عليه  وأن ننطلق منه في عملية بناء الذات  انطلاقا مما  تنتجه هذه الذوات 
هوسرل:
معرفة الغير ممكنة وذلك بوجود عالم مشترك يمكن الذات والغير من الغير من الارتباط بينهما . وهذا المشترك هو ما يسمى بالعالم .
الوجود مع في عالم مشترك ومن خلال التجارب التي يمتلئ بها هذا العالم هو ما يمكن الذات من معرفة الغير . إنفراد الذات بتصور خالص للعالم ، وهو ما يميزها على الآخرين ، لكن هذا العالم نفسه هم من يضمن معرفة الغير ، إذا بارتباطهما بهذا العالم نخلق مجالا مشتركا للإدراك من خلال ما أدركه من العالم .
العالم هم مجال الأفعال والأعمال ، وهذه ناتجة عن الأفراد مما يجعلها تدل عليهم وتحيل إليهم ، وهذه الأعمال تتراكم لتشكل مجموع التجارب تتواصل فيما بينها وتتعارف ، مما يجعل هذا الوسط العام والمجال الذي ندرك فيه أفعال الإنسان ومن ثمة  يدرك الإنسان ذاته أو الغير .
الخاتمة:
 لا يجب أن ننظر إلى علاقة الأنا بالآخر وكأنها تتلخص في صراع  حول الموضعة  , بل يجب أن ننظر على أنها  علاقة تواصل  الشيء الذي ينفي  العلاقة المعرفية الموضوعية التي هي نتيجة للنظر من موقع الأنا  أفكر أو العقل في نشاطه القائم على التجريد والتقييم , وهذه الوضعية يمكن تجاوزها عندما يدخل الأنا والغير  في علاقة معرفية  متبادلة  كل منهما  في  فرديته ووعيه وحريته , ويحضر التواصل حتى في حالة اللاتواصل  لأن غياب التواصل هو  تواصل ممكن .

لا بد من إقامة  علاقة جدلية تركيبية بين الذات والغير ، إذ لا وجود لاستقلال كامل إلا للكائن المطلق أو للكل المطلق  فالفرد لا يعرف  الاستقلال الكامل عن الآخرين ، بل يكتسب استقلاله ضمن وجوده معهم مما يجعل الفرد  ليس مسئولا  على نفسه فقط  وانه سيد  على نفسه ومستقل  وحر كليا  في أفعاله  والحكم عليها وإنما  المسؤولية  تتعداه إلى الآخرين .

هناك تعليقان (2):