السبت، 7 ديسمبر 2013

قيل: ليس التاريخ ما يصنعنا، وإنما ما نصنعه نحن جميعا. بأي معنى يصنع الإنسان التاريخ؟

قيل: ليس التاريخ ما يصنعنا، وإنما ما نصنعه نحن جميعا.
بأي معنى يصنع الإنسان التاريخ؟
      يتأطر مضمون هذه القولة ضمن موضوع التاريخ, وبالضبط دور الإنسان في صناعة أحداث ماضيه, وقبل أن نجيب عن مضمون هذه القولة المرفقة بسؤال, تجدر الإشارة أولا, إلى دلالة ما يعنيه مفهوم التاريخ, فما دلالة هذا المفهوم؟
التاريخ في دلالته اللغوية هو معرفة بأحداث ووقائع ماضية مرتبطة بالإنسان, انه بعبارة أخرى ذاكرة الإنسان بمختلف أنشطتها المادية والفكرية.
بعد هذا التحليل لدلالة مفهومي التاريخ والصناعة, ننتقل إلى الإشكال المؤطر لمضمون السؤال والذي يمكن صياغته في التساؤل التالي:
إذا كان التاريخ هو ذاكرة الإنسان, أي سلسلة من الأحداث الماضية, فهل الإنسان فاعل ايجابي في هذه الأحداث ومتدخل في سيرورتها, أي انه الصانع الفعلي لتاريخه آم انه مجرد أداة مسخرة في يده, خاضع لمنطقه ومنفذ لغايته؟ بمعنى آخر هل للإنسان حرية داخل سيرورة التاريخ آم انه خاضع بالضرورة لهاته السيرورة؟
   كجواب عن هذا الإشكال, يلاحظ أن منطوق القولة يدافع عن الرأي الذي يرى بان الإنسان صانع لتاريخه, وقبل الإجابة عن السؤال المطروح في القولة, تجدر الإشارة أولا إلى مضمون الموقف الفكري الذي ينفي عن الإنسان كل قدرة في صناعة تاريخه, وبعدها سنرى أن ثمة موقف آخر يرى أن الإنسان صانع لتاريخه وماضيه.
وفي هذا الإطار يمكن الاستئناس بما قدمه احد الفلاسفة المحدثين, وهو الفيلسوف الألماني هيجل, فقد ذهب هذا الفيلسوف إلى القول بان سيرورة التاريخ محكومة بالروح أو المطلق الذي ينمو ويتجلى في مختلف أشكال الوعي, حتى يحقق غايته النهائية التي هي الحرية والتطابق مع مفهومه الكامل, أما الإنسان في نظر هيجل فدوره في التاريخ يتجلى من خلال ما ينجزه العظماء, الذين يجعل منهم هيجل مجرد وسائل تحقق غايات العصر والروح المطلق, وتجمع الناس حول هؤلاء العظماء ومساندتهم لهم في مشروعهم, ما هو في واقع الأمر إلا إدراك من هؤلاء, إن هذه الشخصيات التاريخية تمثل الاتجاه العميق للتاريخ, الذي هو تاريخ الروح المطلق, وليس تاريخهم الخاص, وعندما يحققون غايات الروح المطلق, تنتهي مهمتهم ويسقطون في نظر هيجل, كمثل قشور فاكهة أفرغت من نواتها, ويقدم هيجل مثالا لهؤلاء الأبطال الذين كانوا مجرد وسائل في يد الروح لتحقيق غاياتها, فهناك الاسكندر الأكبر الذي مات شابا, ونابليون بونابرت الذي نفي, فهؤلاء سقطوا كالقشور بعد أن حقق الروح التي هي النواة غاياتها.
فليس البشر إذن في نظر هيجل, بمجتمعاتهم وشعوبهم ومؤسساتهم ودولهم وإبداعاتهم, سوى تجليات مؤقتة لحركة الروح الدائبة, إنها أزياء وتجسيدات ترمز إلى مراحل من تحقق الروح, سرعان ما تتخلى عنها لتحقق ذاتها في أزياء وتجسيدات أخرى, من هنا يمكن أن نفهم قولة هيجل المشهورة "كل ما هو واقعي فهو عقلي, وكل ما هو عقلي فهو واقعي" , فكل ما وقع في التاريخ من أحداث, كان لابد أن يقع, وكل ما هو واقعي فهو معقول, لأنه يشير إلى مرحلة من مراحل تحقق الروح المطلق, وليس الرجال العظام والمجتمعات العظيمة سوى مسالك تتحقق فيها هذه الروح.
نخلص من هذا التحلل لتصور هيجل لدور الإنسان في صناعة تاريخه, وهو التصور المعبر عنه في السؤال, إن التاريخ البشري هو تاريخ الروح أو العقل المطلق, والإنسان يلعب داخل هذا التاريخ دور الممثل ودور الحامل لفكرة تتجاوزه وتتعالى عليه, لأنها من مصدر آخر غير ذاته, لكن هل يمكن القبول بهذا التصور كحل لإشكالية دور الإنسان في التاريخ؟ هل فعلا أن الإنسان داخل التاريخ هو مجرد أداة مسخرة ليس إلا في يد الروح المطلق أم أن الأمر عكس ذلك؟
     بالرغم من القيمة الفكرية والتاريخية التي تحتلها فلسفة هيجل في تاريخ الإنسانية والفلسفة على الخصوص, بحيث نقل العقل مكن طابعه الستاتيكي أي الثابت القائم على مبادئ صورية ترفض التناقض, والذي عرف مع كل ديكارت وكانط, إلى عقل دينامي, يشتغل وفق مبادئ المنطق الجدلي الذي يقوم على ثلاثة لحظات أساسية: وهي الإثبات والنفي ونفي النفي, وهي لحظات تشمل بجانب العقل الكون والطبيعة والإنسان, لكن بالغم من أهمية هذا التصور الهيجلي للعقل, كقوة لامتناهية متطورة ومنفتحة على نقائضها, فقد ظل العقل لديه ذو مسحة روحية تنأى به عن ما هو متعارف عليه في ميدان العلم, فيجل في وصفه للعقل لا يقدمه كقدرة فردية ذاتية, وإنما كعقل الهي, او كفكرة مطلقة, فهذا العقل هو الذي يحكم العالم ويمنحه النظام والانسجام, انه يتجسد في كل الحقائق الواقعية, فالأشكال السياسية والاقتصادية والاهتمامات والمصالح البشرية, ما هي إلا أدوات ووسائل مسخرة لهذا العقل الكوني, بل أكثر من ذلك فقد أوقف هيجل حركة العقل وتطوره, على المستوى السياسي في الدولة البروسية, فمعها اكتمل نضج العقل المطلق وانعكس هذا النضج على هذه الدولة, وأيضا على مستوى الدين المسيحي الذي كان هيجل من اكبر المتعصبين له, بل المطلق هو أيضا فلسفته التي كان يرى فيها خاتمة الفلسفات, وقد لاحظ نيتشه ذلك بتهكم, فالتاريخ عند هيجل هو تاريخ الروح او العقل المطلق, والإنسان داخل هذا التاريخ ما هو إلا أداة مسخرة لتحقيق غايات هذه الروح.
لقد تعرض هذا التصور المثالي للتاريخ إلى انتقاد مجموعة من المفكرين, وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني كارل ماركس, الذي رأى في الجدل الهيجلي النواة الأساسية للتطور التاريخي, لكنه جدل في نظره يمشي على رأسه, وقد وجب قلبه وإقامته على قدميه, لذا اقترح تصورا ماديا للتاريخ البشري يقوم بالأساس على الصراع الطبقي, وان دور الفرد محكوم بشروط مادية, اقتصادية على الخصوص, وظروف خارجة عن إرادته. فالناس في نظر ماركس هم الذين يصنعون تاريخهم الخاص, إلا أنهم لا يفعلون ذلك عشوائيا, وضمن شروط من اختيارهم, بل شروط معطاة مسبقا وموروثة...
إن هذا التصور الماركسي المادي للتاريخ البشري, جعل السؤال حول دور الإنسان في صناعة تاريخه يطرح من جديد, ويفتح آفاقا فكرية جديدة, وهو الأمر الذي يمكن لمسه لدى الفيلسوف الفرنسي سارتر, الذي سيحاول الانفتاح على الماركسية من اجل توضيح دور الإنسان في صناعة التاريخ, وتوضيح حدود هذا الدور, وذلك من خلال تحديد طبيعة العلاقة الموجودة بين الإنسان وشروط وجوده, فعكس ما قاله "انجلز" الناس هم الذين يصنعون تاريخهم بناء على شروط واقعية سابقة, يرد عليه "سارتر" الناس هم الذين يصنعون تاريخهم وليس الشروط السابقة, وإذا ما افترضنا أن هذه العبارة صحيحة فان الناس سيصبحون محركين لقوى لا إنسانية, ستقوم بالتحكم من خلالهم في العالم الاجتماعي, صحيح أن الشروط موجودة, وهي وحدها التي يمكن أن توفر التوجيه والواقع المادي للتغيرات الموجودة في حالة استعداد, لكن حركية الممارسة الإنسانية تتجاوزها وتحتفظ بها في الوقت نفسه, لكن السؤال المطروح هو كيف يمكن تفسير انفلات التاريخ في بعض الأحيان من الإنسان, هل يمكن رده إلى القضاء والقدر؟ يجيب سارتر على هذا السؤال ويقول: إذا انفلت مني التاريخ, فليس مرد ذلك أني لا اصنعه أنا, بل مرده أن الغير يصنعه أيضا..., التاريخ إذن في نظر سارتر من صنع الإنسان, سواء كان هذا الإنسان أنا أو الغير, وليس كما يظن القدر أو الصدفة.
      نستنتج من تحليل ومناقشة القولة المرفقة بسؤال, والمواقف المؤيدة والمعارضة, انه بالرغم ن محاولة ماركس منح التاريخ الإنساني طابعا واقعيا مرتبطا بظروف الناس المادية, فهو لم يخرج عن ما قدمه أستاذه هيجل, من رسم منطق خاص لحركية التاريخ, تنتهي عند حدود معينة, وينتفي من داخلها الفعل الإنساني, بحيث يصبح أداة طيعة بيد حركة هذا التاريخ, وهنا يصبح التصور السارتري إلى حد ما مقبولا, حين يطرح إمكانية صنع الإنسان لتاريخه, رغم ما يعرفه هذا الإنسان كشخص أحيانا من اكراهات, تقف حجرة عثرة أمام مشروعه التاريخي, وهو القول الذي يمكن أن ينسجم مع هوية الإنسان كشخص, تلك الهوية التي تتشكل من أبعاد متعددة متداخلة فيما بينها, فيها ما هو ذاتي أي الوعي والإرادة, وفيها ما هو موضوعي أي الظروف المادية والبيولوجية والاجتماعية منها والاقتصادية, كل هذه العناصر تدفعنا إلى القول بدو نسبي للإنسان كشخص في صناعة تاريخه, وهذا الدور لا ينقص من قيمة الإنسان, بل يرسم له الحدود الممكنة للتصرف بحرية في صنع تاريخه, وهذا التصرف رهين هو أيضا بامتلاك الإنسان لقدر من الوعي بماضيه, ولما يروم تحقيقه في المستقبل, فالإنسان ليس خاضعا مطلقا لقدر يتصرف به وبتاريخه كما يريد, وليس حرا حرية مطلقة, لكنه قادر على الوعي بما يعرقل نشاطه الفكري آو المادي.                                    


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق