السبت، 7 ديسمبر 2013

جاك ميجليوني: الدرس الفلسفي

الــدرس الــفــلــســفــي
بأي معنى يجب القول بأن الدرس الفلسفي لا يشبه درسا آخر؟ فباعتباره درسا يجب أن يفهم بنفس الطريقة التي نفهم بها درسا في الرياضة البدنية والرسم أو الغناء؛ إنه الفعل غير المنقسم للتكوين والتكون الذي ننجزه أمام التلاميذ، أو الذي نسمعه لنتعلمه ونحفظه؛ في حين يتطلب ميدان الرياضة البدنية والرسم أو الغناء ممارسة التلميذ الفعلية التي يحددها له الأستاذ، والتي يعالجها فيما بعد لتصحيح عملية إنجازها؛ فالأستاذ يطلب ويقوم، وإنجاز العمل كله متوقف على التلميذ. بالفعل أن الأستاذ يقضي الليالي في القراءة والتأمل، لكنه لا يذهب إلى المدرسة ليشتغل لذاته؛ على هذا الأساس هناك ميل اليوم إلى اعتبار أن الأستاذ لا يستحق ما يتلقاه من أجر وتقدير وهو يشغل تلامذته ويقوم عملهم.
       هل يتعلق الأمر أيضا بعمل لا ينتج شيئا وغايته الوحيدة هي تهيئ التلميذ للتكون فقط: فالأعمال المرئية التي لا نستطيع تقديرها، ليست إلا وسائل بالنظر إلى هذه الغاية. لكن التمرين الواقعي يبقى الحجة الوحيدة، فالغناء والرسم والرياضة البدنية مجالات تتطلب تطبيقا معينا يمكن من إرضاء جمهور محدد، لكن نتائج هذا العمل لا تعرض إلا للمشاهدة أو الاستماع، رغم كونه في الحقيقة عملا داخليا يمكن أن يكون موضوعا للتدريس. يبقى الهدف من هذا العمل هو التغلب على كبرياء الراشد الذي غالبا ما يكون سلبيا بالنسبة للفتيان، والذي يدفعنا إلى الاعتقاد بعدم وجود درس للتلقي، في حين أن التلميذ الحقيقي لا ينطوي على ذاته، بل يتعلم ويتغير بتقدمه الذاتي.
       إن الدرس الحقيقي هو الذي يغير الأفكار فيما بعد الدراسة، بل وفي الحياة كلها، هذا ما تعنيه بالضبط كلمة التكون والتعلم. يمكن أن تملأ أذهاننا بالمعارف دون أن نُكَون بأية طريقة؛ كما نسمع بأن نهاية الدراسة بما هي اكتساب شيء ما ينقصنا ولا نملكه بعد، أقل قيمة من أن نصبح على الشكل الذي نملك -مسبقا- القدرة الوصول إليه وتحقيقه.
       إعطاء درس لا يعني نقله وتقديمه كهدية، بل هو طلب وسؤال يمكن أن يصل إلى مستوى الإلحاح والإجبار؛ والسؤال المطروح هو: من يقدم أكثر؟ الأستاذ أم التلميذ؟، لنقل مع ذلك بأن فضيلة الأستاذ هي التقتير وليست الإسراف؛ فالدرس هو فعل تجميع واختيار، لأن ركام المعطيات والوثائق لا يشكل درسا، ولا يصلح حتى أن يكون درسا صامتا، فهو يبقى مجرد تجميع معطيات حول الكلمة التي تثير التفكير.
       لقد أصبح فعل التعليم غامضا بفعل وفرة التقنيات المخصصة للتواصل. وحتى لو لم نقل شيئا عن الصورة، فإننا لا نشك في كون الكلمات تنقل الأفكار بشكل سحري يصبح فيه التدريس فعل إفراغ وتعبئة، لكن رغم ذلك يجب أن نعرف بأن الأصوات لا تنقل إلا أصواتا، فحينما لا نتقن لغة معينة مثلا، أو حتى لغتنا المتداولة، فإن الكلمات حينها تصبح مجرد ضجيج لا معنى له؛ وعندما نبقى خارج الأسئلة المطروحة بسبب غياب الثقافة أو التعلم، فإن الكلمات حينها تصبح أحجيات غامضة.
       إن التعليم الحقيقي هو الذي تُتلقى فيه الكلمات على شكل دلالات، لكن المعاني التي تثيرها هذه الأخيرة لا توصلها إلا إذا كنا نحملها بوجه يجعلها تسبق الخطاب الذي يبقى بدون فعالية. إن الأستاذ الحقيقي هو الذي ينخرط في عملية التدريس من الداخل؛ لكن مدرسينا يتفادون أفلاطون وسان أوغستين: إنهم لا يريدون المخاطرة بفقدان مناصبهم.
       يمكن لحادث تاريخي أو حادثة نتعرض لها في حياتنا أن تكون درسا، لذلك يجب أن نتوفر على هامش كبير من الحرية لتغيير الأفكار، بل وأكثر من ذلك تجنب العادات والآراء التي تعيق التفكير. قد يكون من السذاجة الظن بأن المحادثة ضرورة من ضرورات الصحة، لأنها تتبع الاستعمالات فقط، في حين أن هذه الاستعمالات لا تدخل ضمن شروط الصحة؛ وقد قال موليير الشيء الكثير بهذا الخصوص، فالإشكال يكمن في معرفة كيفية الاستمرار في تشغيل الذهن بجدية فيما يتعلق بالصحة دون الميل إلى الفظاظة. فالحوار إذن، تكرار طقوسي لأسئلة سبقت الإجابة عنها، إنه المجال الذي يكثر فيه استعمال الآراء المفندة بشكل مستمر قد يمتد لقرون أحيانا، وذلك يتجاوز تلك التفنيدات أو معالجتها.
       فإذا ما وضعنا جانبا الفضيلة الاجتماعية للمضايفة التي تحظى بالاعتبار، يصبح الحوار مجرد أحكام مسبقة وانفعالات حزينة تؤثر سلبا على كل من الدراسة الحرة والمدرسة أيضا.
       ليس الفراغ هو الذي يعطل العقل، بل كثافة الأفكار هي التي تؤدي إلى ذلك؛ على هذا الأساس يراهن الدرس الفلسفي - منذ بدايته- على تجنب الآراء الجاهزة والأحكام المسبقة التي تحتل العقل وتمنعه من التفكير الذاتي؛ فلا يمكننا سماع درس معين، إن لم يعكس الجسد انتظامه للموضوع ذاته بتركيز الانتباه. فالذي لا يستطيع الإنصات وغير قادر على الالتزام بالصمت، وبالتالي كبح آرائه ونزعاته، فلن يفهم ولن يتعلم شيئا أبدا، ولهذا فالدرس يخالف المحادثة الملازمة للكوميديا الاجتماعية. من النادر أن نقبل بالتعلم أو التكوين بالشارع، أو في قاعة أو على طاولة حيث من المفروض أن تتقاطع المحادثات. وبصفة عامة نرفض التكوين أو التعلم في سن متقدمة. بالنسبة لأغلب الناس كما نعلم أن نكون كبارا يعني أنه لم يتبق لنا ما نتعلمــه - ولا حاجة للتذكير به - بأن المعلومات العادية ولو أذيعت عبر قنوات متعددة لا تشكل درسا البتة.
يجب التذكير بأن القسم يحتاج إلى حماية، فلن تبق له أية قيمة إذا ما تعرضت المؤسسة لكوارث مناخية تؤثر على التلاميذ والأساتذة. هل توافق السلطات المسؤولة على ترك المدرسين يدرسون والتلاميذ يتعلمون؟ هذا هو السؤال المطروح اليوم.
يعتبر الصمت داخل القسم شرطا ونتيجة للانتباه، فهو يرمز إلى استكانة الروح، ويثمن الحديث، فلا حديث الأستاذ ولا حديث التلميذ يكسران الصمت الذي سرعان ما نعود إليه في كل حين. هذا الصمت الذي يسبق ويلي الحديث. هذا الصمت الذي يحمل الحديث لأنه موقع المعنى، لن نقول أبدا ما الذي يجعل من القسم قسما، إنه ليس جمعا لمتناقضات، لكنه عدد محدود من التلاميذ، يمكن معرفته، وانعدام حركية الجسم والضبط والتحكم في الحركة. فهناك شروط فيزيائية من دونها يضيع الحديث؛ ومعنى ذلك أن الحديث لا يفتقد في الصمت، في حين قد يكسره دون أن يقضي عليه، ولكنه يضيع في الضوضاء والحركة. بطبيعة الحال يمكننا الكلام ونحن نتمشى، لكن الخطوة تعطي إيقاعا للتفكير في إتمام الحديث أو الصمت. من لم يعرف الزمن خارج الزمن والسعادة في التفكير دون انفتاح على العالم المحيط لن يعرف قط القسم ولا التعليم.
إن الدرس الإلقائي، أي تعليم الأستاذ ليس خطبة. يجب إعادة قراءة أفلاطون؛ الخطيب يريدك أن تعطي لمقولاته قيمة دون فهمها، فهو يراهن على ضعف المتلقي وعلى نزواته وتخوفاته وغرائزه، إنه يريد جمهورا لا يبذل أي مجهود، جمهورا غير مقيد بواجب معين، وما تقوله الكلمات بفعالية، هو أن الانتقال من الديماغوجيا إلى البيداغوجيا هو أن تجعل الطفل مكان الشعب وليس تغيير الروح، وعلى العكس من ذلك فالمدرس يجب أن يحبط كل الانتظارات les attentes.
يجب أن يجد المستمع - منذ البداية- نفسه محبطا أن يكتشف أنه يستطيع انتظار أي شيء ما عدا انتباهه، إنه أكبر سر للتعليم الذي يهيئ مستمعا شديد الانتباه، في حين أن البيداغوجيا الصاخبة تعد بالاختلاف والملل. لن تتحقق الفائدة إلا إذا استلهمت من المضمون وأحدثت بواسطة التعليم نفسه. ولكون الأهمية لا تسبق  التعليم بل هي نتيجته، ينتهي المستمع دائما باختصار اهتماماته العابرة أو القليلة القيمة، أو كما نقول محفزاته، وعلى سبيل المثال فإن ضرورة ومتطلبات فكرة عظيمة مكتوبة على سبورة سوداء تقضي على كل النماذج.
على العكس من ذلك وكيفما كانت دقة التقنيات المجربة في التداريب، فإن المدح  ليس له من نتائج غير هدم التعليم، عندما تلتقي هذه الابتكارات أو بالأصح المكائد مع دعم السلطة السياسية، فإنها تشكل انقلابا مستمرا ضد المدرسة، وتنمي الكراهية داخل المدرسة وضدها.
كيف -على سبيل المثال- (وليسمح لي الرياضيون على استخدام هذا التقليد) يمكن لبرهان على مثلث متساوي الساقين أن يفيد التلميذ إذا لم يتمثله ذهنيا أولا ؟ اللهم إذا  كان هو طاليس نفسه. يجب أولا أن نضع أنفسنا موضع التلميذ، كما يجب أيضا أن نتذكر بأن طاليس كان تلميذا لنفسه؛ وهنا بالضبط تكمن حقيقة التكوين: تعلم التفكير انطلاقا من ذواتنا (التعلم الذاتي) لأن البرهان ليس في الحديث أو الكلام، ولا رسوما نخططها على الرمال أو السبورة، فضلا عن أن المدرس الحقيقي لا يقدم نفسه كمالك للمعرفة. عن قريب كنا نصل إلى حد مقارنته بالرأسمالي القابض الوقح الذي يفرق خيراته ببخل. على العكس من ذلك فهو متواضع وفقير ودائم البحث كأي شخص لا يعرف الحقيقة بعد، هل هو مدرس غير عارف ؟ بالتأكيد لديه دائما شيء من سقراط،  فهو يساءل نفسه معطيا بذلك مثالا على الانتباه. هذه الصلاة الطبيعية التي بفضلها نحصل على الحكمة التي تنيرنا؛ حقيقة أن البيداغوجيين الرسميين وغير الرسميـين لا يقرؤون مالبرانش Malebranche، بسبب عدم مساءلة الذات أولا، وأيضا عدم مساءلة ذلك الأستاذ -لنفسه- الذي يجلس على الكرسي لإلقاء خطاب ليس خطابه الخاص. من الخطأ أن نقول عنه أنه درس إلقائي لأن الأستاذ لا يشتغل لنفسه، إنه يحكي ما يعتقد أنه يعرفه، في حين أنه ليس عملا فكريا، وأنه لا يعلم نفسه فقط؛ وكنتيجة لذلك فإنه لا يدرس ولا يساءل نفسه، وبالتالي فالأسئلة التي يطرحها على التلاميذ لا تجد طريقها إلى الفكر.
لهذا فإن الإنسان الذي يعتبر نفسه أكثر معرفة بالعالم قد يكون غير قادر على التعليم. ليس لأنه غزير المعرفة أو العلم، وبطبيعة الحال لن نكون كذلك، ولكن قد يبدو له تعلم الأشياء التي قد تعلمها فيما سبق من الرتابة بمكان.
إن هذا الشخص الذي يرفض تعلم الأشياء وتكرار نفس مسار التعلم لن يكون بمقدوره ممارسة التعليم. فأهلية التعليم مرتبطة بتكرار نفس مسار التعلم الذاتي، ولكوننا لن نرضخ لتعليم الآخرين، إذا ما نحن اقتنعنا بمعارفنا المكتسبة، وإذا ما تحررنا من الجهل والخطأ، وكذلك إذا لم يذهب المعلم إلى المدرسة ليتعلم أيضا، فإن التلاميذ لن يستمعوا إليه وسيسأمون منه؛ ليسقط بذلك في أسلوب الشرح الذي يترك - كنتيجة رجعية- بصفة كلية فتورا وإرهاقا أيضا. عندما يشرح المدرس ما توصل إليه بنفسه، يمكن أن يُسمع ويستحسن، لكن التلاميذ يفكرون في شيء آخر، مما يفسد انتباههم في الدرس الفلسفي أكثر من أي درس آخر. إن التسلسل المستجمع، وتقدم الفكر بالفكر، هو تقدم واع بذاته، لأنه لا يتملص من لحظة الخطأ والجهل، فالتلميذ إذن يملك إحساسا لا يتبع فيه فكر الآخر بشكل سلبي، أو شحنه -وكأنه وعاء- بفكر سبق التفكير فيه، لكنه يكون نفسه بتفكيره الخاص، لا بإجباره ومطالبته بالتفكير وكأنه مدين بفعل ذلك.
   تضيع الفرصة عند الاستعجال في استهلاك الفواكه المعرفية الناضجة جدا. فالتعلم ليس هو الاكتفاء بما أنضجه الآخرون، بل هو قدرة المرء على ترقب نضجه المعرفي بنفسه. لكن إنسان الحداثة لا يقبل  بأي فقر معرفي، فبالنسبة له تستهلك المعرفة، أو بالأحرى تحفظ حتى تستهلك في الوقت المناسب؛ معرفة متجمدة قابلة للانصهار من أجل الاستهلاك العادي، فلا حاجة هنا للجني والاختيار وتهيئ ومراقبة الطبخ. إن التقنيات الجديدة تضع رهن إشارتنا وبشكل انسيابي معارف عدة، كما لو تعلق الأمر بسوق تجارية كبيرة للمعرفة. معارف متجمدة لا حاجة لها بنا كي توجد، بل نلجأ إليها عند الحاجة، لكن هناك من بين الإنجازات الحديثة واحدة نعيها ولا نجرؤ على قولها، تتعلق بالاقتصاد وبالقضاء على المدرسة.
       تنشر المعرفة ولا توزع، وعلى كل فرد أن يسعى لامتلاكها شخصيا أن يكتسب قبل كل شيء ضبط حقل معرفي معين، وهذا هو ما يعنيه التعلم. على التلميذ ألا يبقى مكتوف اليدين كما لو أن الأمر يتعلق باستعراض لا يشارك فيه، لقد صار أخذ النقط بمثابة الحجة الوحيدة عل انتباه التلميذ، وإلقاء درس خير من حصة استعراضية تقام ليلا كما هو الحال في السينما.
 لقد تابعت لمدة سنتين درسا إملائيا في الرياضيات، شكل بالنسبة لي التعليم الأكثر حيوية، بحيث لم أر مثيلا له من قبل، فالأستاذ الشاب النحيف الذي كان يرتدي بذلة سوداء والمبرز حديثا، والذي -لحسن الحظ- لم يتلق أي تدريب بيداغوجي كان ارتجاليا، والسبورة تحفظ له بآثار الأشكال والعبارات، لكن الكلام يشكل -دون أن ننتبه لذلك- تحريرا كاملا. هذا الكلام كان جد قريب من الفكر الذي ما فتئنا نستجديه حتى دون أن نكون مدعويين لسماعه، حينئذ فهمت بشكل أفضل ديكارت، الذي حدثنا عنه أستاذنا في الفلسفة السنة الموالية.
" تلك السلاسل الاستدلالية، الطويلة، والبسيطة، والسهلة، التي اعتاد الرياضيون استعمالها في براهينهم الأكثر صعوبة".
يشدد التعليم الرياضي على الاحتراز الذي يجنب التلاميذ المجتهدين من أن يدحضوا من طرف التلاميذ النبهاء، ذلك لأن الدرس عندما ينتهي -كما نعلمه- تكفي قراءته قبل الدرس الموالي، والقيام بإنجاز التمارين المطلوبة. كل ما يجب معرفته بالنسبة لباقي الأعمال يكون مسجلا ومضبوطا على الدفتر، ويجد فيه كل من التلميذ المتعثر أو المشاكس ما يجعله يساير التعلم، وهذا ما لا نجده اليوم في معظم المواد الأخرى.
لقد فهمنا بأن النقط التي سجلناها، أو بالأحرى ذلك التحرير المنجز والمملى بشكل فعلي، كان حتما أفكارنا؛ لا شيء يقارن بتلك الدروس المنسوخة التي تعفينا من الذهاب إلى الكلية؛ التتبع والتفحص المعرفي لكلمة الأستاذ، يجعلنا كما لو أننا أخذنا تلك النقط بأنفسنا وباختيار شخصي، الشيء الذي كان يساعدنا على الإجابة على أسئلة الدرس الملزم على البحث، لكن ما نكتبه كان خاصا بنا، حتى تحرير الدرس قد أنجز بما كنا قادرين على التفكير فيه مباشرة وبأنفسنا.
يمكن القول إن الخمسة والأربعين  تلميذا الذين كنت من بينهم، كانوا يشكلون قسما، ندرس اللغة اللاتينية واليونانية، وقد التحق العديد منهم بالمدارس الكبرى وكنا جمهورا مدرسيا مختلفا عما نراه اليوم. وكرد عل خطاب الكراهية الذي يقول بتحريم الإقلاع عن المتطلبات المدرسية تحت ذريعة جعلها مواكبة لمستوى الشعب، والذي يقول كذلك أنه كلما كان مستوى التلاميذ ضعيفا كلما كانت المناهج أكثر شدة وصرامة.
كراهية الماضي تغشي بصر أنصار الحداثة بشكل يؤدي بهم إلى منع إشاعة  الاعتقاد الذي شكل قديما المجد المحتقر اليوم من قبل أساتذتنا، أجرؤ على إضافة أنه إذا ما ألححنا على إرغام التلاميذ على الدراسات التأملية، فسننتهي إلى تعليل الإقلاع عن كل تعليم واقعي. لكن التخلي التدريجي عن الضرورات المدرسية يؤدي إلى تضخم عدد الحاصلين على شهادة البكالوريا وليس العكس كما نتوهم لكي ندافع على أنه حان الوقت الذي سنعالج فيه مشاكل التعليم بجدية، بالرغم من كل النقائص التي تعتريه، وإلا كيف نفهم أن المدرسة الابتدائية نفسها قد أصابتها العدوى. هل نسينا أن المدرسة منذ قرن كانت تحتضن جميع الأطفال الذين كان عدد كبير منهم محرومين من التمدرس كما هو الحال اليوم؟
 بالعودة إلى مثالنا، نتساءل من أين أتى كل هذا الضجيج بخصوص أخذ النقط؟ يقول عباقرة علم النفس، أننا لا يمكن أن نكتب ونسمع في الوقت نفسه، كما لو نقول أن الموسيقي يمكن أن يتتبع التقسيم الموسيقي ويقود الاركسترا في آن واحد؛ الفرق الوحيد هو أن عمل الموسيقي في مجمله  يقتصر على حفظ التقسيم الموسيقي عن ظهر قلب، في حين أن الفكر يبقى في حاجة لنقطة ارتكاز تضيع إذا ما بقي مرتبطا بالأقوال التي ستتلاشى فيما بعد؛ لكن العناية التي يوليها التلميذ للفكر تلزمه بحفظ أثر منه، لكي يتمكن بعد ذلك -وبصمت - من بلوغ التفكير.
منذ ما يزيد عن ألفي سنة ونحن ننشر نقط الدرس، منها ما شكل مؤلفات فلسفية كبرى. نتمرن على أخذ النقط بالانتباه المساير للحديث والرغبة في حفظه والحفاظ عليه وعلى التركيبة نفسها التي تحمل هذا المعنى؛ وهذا يتطلب منا بطبيعة الحال معرفة القراءة والكتابة إلى مستوى يصبح فيه الدفتر بديلا عن الأستاذ؛ لكن الدرس يعني قبل كل شيء القراءة. هذا التمرين ينمي العقل، بشرط عدم الاقتصار على تراكم المعلومات. ليس أخذ النقط تخزينا، إنه قبل كل شيء اختيار وفهم واستيعاب للدرس، يؤدي أخد النقط -إذا ما تعلق الأمر بدرس معين- إلى أسمى مستوى من فن الإنصات.
بداية، يعتبر الدرس الفلسفي مثل جميع الدروس الأخرى، لكنه يشتمل على ضرورة غير متوفرة، أو على الأقل غير قائمة بنفس الطريقة في دروس أخرى، بحيث يراهن كل درس فلسفي على الفلسفة بكاملها؛ يجب أن تكون الميزة الخاصة لطريقة التفكير حاضرة باستمرار كيفما كان الموضوع؛ فإذا ما تجاهلنا الجدالات السفسطائية التي تعتبر ماهيتها مثيرة لكنها غير مسلية، فلا يجب أن نكثر في التمييز بين درس يعالج موضوعا ما من جهة، وبين سؤال وحوار من جهة أخرى. على هذا الأساس فإن السؤال ليس لحظة خاصة بالتعليم الفلسفي كما هو الحال بالنسبة لتمرين في المراقبة المدرسية. يتبع الدرس -بكامله ومنذ بدايته- الأسلوب التساؤلي، سواء كان المجيب أستاذا أو تلميذا،   وكيفما كانت قيادة  التفكير؛ من الأحسن أن يحتفظ الأستاذ بالإجابة في بعض الأحيان حتى يترك للتلميذ وقتا للتأمل من جهة، ويبادر على الإجابة من جهة أخرى، وبالتالي فهو يساهم في تشكيل الخطاب رغم أنه يؤدي إلى إحداث منعرج أو موجز لم يكن متوقعا، ذلك لأن الدرس يتشكل وفقا لمقياس، ويتقوى بالصعوبات، بمعنى الحظوظ التي تتوفر، والتي لا نتوقع ظهورها دائما.
 أما بخصوص الدرس الإلقائي، فإذا كان المعلم على الأقل معلما حقيقيا، فإن التلميذ يرتقي إلى الوصول إلى المصادر الأولى لفكر لا يقدم كما فكرنا فيه مسبقا، لكنه ذلك الفكر الذي يتشكل أمام التلميذ ومعه وعبره؛ لهذا ففي أحسن الدروس لا يحتاج التلميذ لأن يسأل بهدف الإجابة، لكن لكي يعترض ويطرح السؤال بنفسه، وبأنه مدعو للإجابة والاعتراض عوض المعلم، حتى نشهد بأنه قد امتلك بنفسه التحكم في التفكير.
عندما لا نفهم ما معنى التعلم، ونفتقر للحرية العقلية، لا نتوقف عن تخيل الذرائع التي تهدف إلى إفراغ التعليم من كل ما يمكن أن يشكل مادة للتعلم؛ تلك هي الافتراضات الضمنية لكل الإصلاحات لكي نخفي كل ما يمكن أن نسميه بغرابة الإخفاق المدرسي. لا نحتاج إلى التخلي عن المضمون ونعتقد في الأخير بأننا تحررنا من كل المتطلبات الخاصة بكل مادة، وبهذا نريح ضميرنا لكي لا ندرس أي شيء؛ في حين أنه من أجل التعليم، يمكن الاكتفاء بمعرفة أن العقل يوجه العقل، وأن الكلام هو الوسيط بين العقول، وأن القسم بكامله يطلب بقوة وإلحاح بواسطة الحضور الفعلي لفكر يساهم في بناء نفسه بنفسه. فالذي لا ينتبه من تلقاء نفسه للروابط التي تجمع بين الكلام والفكر، ويتعلق بفكر غيره أو بفكره الخاص، سيبقى دائما -وكيفما كانت المبررات- عاجزا عن ممارسة التعليم. فمضمون درس ليس كالمنتوج الصيدلي الذي لا يمكن أن يقدم بدون سواغ Excipient. حضور العقل للعقل هو الشرط البيداغوجي الوحيد: هذا المضمون الذي يتقوى حيث لا يمكن أن نقول أنه لا يحفظ أكثر من الحكم - كما يستحضره كانط- إلا عبر المثال والتمرين. فبخصوص التلاميذ الذين قد أشرفوا على نهاية الدراسات الثانوية، نفترض بالتأكيد أن لهم معارف كافية حول اللغة التي تستحيل من دونها القراءة والإنصات: معرفة القاموس والنحو، بمعنى ضبط فكر لا ينفصل أبدا عن تعبيره، كما هو حال الهدف الأول لكل درس. هذا التأمل في الكلمات، في تقاطعاتها وتقابلاتها، يبقى أحسن وسيلة للتمييز والربط فيما بينها بالمفاهيم، ومراجعة كل شيء انطلاقا من عناصر.
       يجب أولا التفكير في التعليم الفلسفي كتعليم أولي، إذ يقول هيجل بهذا الخصوص بأن قواعد اللغة هي الفلسفة الأولية. لنطرح بدورنا السؤال: هل يمكن لأساتذة الفلسفة أن يكونوا آخر المدرسين؟ نستطيع بالطبع أن نتساءل عن علاقة الحركية البيداغوجية التي تتجاوز اليوم كل المقاييس، بتراجع اللغة الفرنسية في المدرسة: فأين يكمن السبب؟ وأين تكمن النتيجة؟
       أخيرا، فإن الدرس الفلسفي يندرج في وحدته وكليته، حيث يكون المحور معلوما من البداية حتى النهاية. لهذا فالأستاذ ليس في حاجة ليكرر تكرارا حقيقيا لكي تكون لتعليمه قيمة إيجابية وفعالة وغير مملة.
واجه تعليم الفلسفة منذ أكثر من عشرين سنة نوعين من التهديدات: فمن ناحية واجه المشاريع الوزارية المتتالية الهادفة إلى تقليص تدريس الفلسفة واختفائه؛ ومن ناحية أخرى واجه الأنماط الفكرية العاملة على تفريغ هذا التعليم من محتواه. في الستينيات كثيرا ما أهمل البرنامج بأكمله تقريبا لفائدة الثلاثي الشهير: ماركس، نيتشه، وفرويد،  »فلاسفة الشك  «كما يقال، والذين تتم الاستعانة بفلسفتهم لإبطال كل فلسفة؛ بالإضافة إلى النجاح الذي حققته العلوم الإنسانية الدافعة إلى تجميع معطيات المراد منها أن تشكل وثائق حول الأحلام، حول العصاب أو ما يشبهه، دون أن نتمكن من التوضيح الفلسفي لمفهوم واحد مستعمل، كاللاشعور على سبيل المثال. لقد تم إرجاع إخفاق هذا التعليم إلى البرنامج الموسوعي الذي لا يمكن تطبيقه. وقد ذهبنا إلى حد وضع مفهوم البرنامج نفسه في القضية، وهذا باسم مصلحة التلاميذ ومحفزاتهم، ولحرية البحث التي تم تخليصها من الإكراهات القديمة والتعسفية التي لم تعد صالحة. يمكن اليوم أن نعرف بسهولة المذهب المعزز من طرف السلطة السياسية، وهي في الحقيقة فكرة الدرس نفسه، الدرس الذي تم تناسيه وطرده، ليس في الفلسفة فقط، الشيء الذي يفسر بأننا لا نظن دائما أننا مجبرون على إنهاء مقرر التاريخ أو الجغرافيا مثلا: إذ يمكن للتلاميذ أن يجتازوا البكالوريا دون أن تعطى لهم الفرصة في معرفة حوض البحر الأبيض المتوسط أو الثورة الفرنسية !
يمكن أن نمضي كل حياتنا المهنية في معالجة السفسطة الإبمينيدية  d’Epiménide أو العصاب دون توقف. في حين أن الدرس يتحدد بمدته أولا، والسؤال الذي يطرح إذن هو: كيف نكون عرضا يستدعي الفكر في حدود الوقت المتوفر؛ فعندما يتعلق الأمر على سبيل المثال بفكرة الحقيقة، فلا يمكن لإنجاز درس في ساعتين أن يكون ملخصا لدرس سنة كاملة. لا تسمح شروط الوقت لا باختصار الدرس ولا بتقطيعه؛ ببساطة من الصعب دائما اختصار الدرس. لا يستطيع الغبي سوى أن يحصي ويعرض معلومات أو نظريات. يجب أن يكون المرء أكثر اطلاعا من أجل التبسيط، أو بالأحرى إبراز الأساسي لتبسيط القول. تحضير الدرس يتطلب ثقافة معمقة، وقدرة على التأمل تمكن من الوصول إلى البسيط واستخراج الأساسي. تجب الإحاطة بكثير من الثقافة الفلسفية والتفكير التأملي لإنجاز درس كامل في ساعتين حول الحقيقة. لا يعني أنه بمجرد إنجاز درس كامل مباشرة وبوضوح لجمهور متواضع، أنه قد تم إنجازه بشكل جيد؛ بيد أن المشكل يكمن في كل من شروط توضيح الفكرة والوجهة المستقيمة للمحور الفلسفي التي لا تتطلب أكثر من نقطتين مركزيتين كافيتين لتشكيل كل  Un tout يستند على مركز للتفكير، ولا يتكون داخل خليط غير محدد الأجزاء. فالعرض  étalageليس له حد ولا نهاية، في حين أن الدرس الأصيل له حد لأن له نهاية.
       من خلال القراءة واعتماد الأعمال الفلسفية، نتعلم بناء الدرس، ويمكن لكل من المثال والملاحظة والصيغة أن تحقق الاقتصاد الداخلي للتنمية، وبالتالي فهي تعطي القوة للتحكم في الجدول الزمني المحدد؛ وما يخص درسا واحدا، ينطبق على دروس سنة كاملة؛ لكن هذه الدروس -المفترض إنجازها- هي التي تحدد مضمون درس بسيط في تصميمه وحدوده، خاصة وأن كل درس، مهما كان موضوعه ومدته، يمكن أن يكون درس فلسفة حقيقي ! تدعو فيه الخلاصة -دائما- للاستمرار والمتابعة، دون أن تكون حدا يصطدم به التفكير. لكن التلميذ ليس هو هو، فقد تعلم وهو يعلم ذلك.
       بعدما تخلينا ولمدة طويلة عن الأعمال الفلسفية نفسها لفائدة النظريات المتجاوزة والملخصة بشكل سطحي، اكتشفنا القراءة المباشرة لأمهات النصوص؛ وقد أحدث هذا تقدما هائلا أنقذ التعليم الفلسفي فعليا من الإهمالات التي من خلالها تمكنا من التخلي عن حقول معرفية أخرى، كما أدى هذا التقدم أيضا إلى نتائج معاكسة.
يعوض الدرس في بعض الأحيان بمجموعة متنوعة وغير محددة من النصوص المختارة اعتباطيا بأجزاء مختارة تعفي من قراءة المؤلف مباشرة، وقد تم تناسي بأن فقرة من نصوص ديكارت أو صفحة من مؤلفات كانط يجب أن تستدعى من طرف السؤال الفلسفي الذي نطرحه بأنفسنا. الأستاذ الذي قرأ وتأمل يصل إلى القسم إذن وهو يحمل مقطعا عبارة عن صفحة أو مجرد صيغة لإلقائها كإضاءة حول الموضوع الذي يقترح معالجته، والذي لا يتردد في أن يمليه على التلاميذ؛ في هذه الحالة لا يصبح شرح النص تمرينا متميزا، لكنه يشكل جزءا مكملا للدرس، سواء لأنه يساعد في عرض الموضوع وفتحه، وتحديد المحور الفلسفي، أو أنه يمكن من إنجاز الدرس. مادامت مصادر المعرفة الفلسفية متعددة، ستصبح كل محاولة لتقنين الإجراءات مجازفة لا طائل منها؛ إن الذي يسعى إلى تقنين المادة، إنما هو شخص يزيغ عن الأهم ولا يعير مفهوم الحرية أي اهتمام؛ لابد من تكرار هذا القول: على المدرس أن يكون ذا ثقافة فلسفية متجددة باستمرار ومدعمة بقراءات متكررة، عليه ألا يعتبر الظروف المؤسساتية (برامج أوقات العمل، امتحانات) عراقيل، وإنما هي ظروف عمله، ولو كان يتمنى ما هو أحسن منها عليه بالخصوص كلما رحل إلى ملاقاة تلاميذه أن يجد مبررا لتنقله. فالمستمع يميز بسرعة إذ كان ما يتلقاه مطابقا لقاعدة دخيلة أو طقس بال، أو أنه على العكس من ذلك نابع من الفلسفة، فتنفتح الأذهان وتتحاور في أعلى المستويات؛ في هذه الحالة ما يقدمه التلاميذ كهدية يتمثل في حضورهم المركز، وفي مشاركتهم التلقائية، وفي تطورهم الذاتي ورغبتهم اللامحدودة في التعلم وإدراك سعادة التفكير.
يفترض تدريس الفلسفة إذن ضبط مادة محددة، وإيجاد معرفة مبدأها تعميق هذه المادة وكذا ثقافة مجددة لها، وأخيرا حضورا ذهنيا يترجمه النظر باستقامة في وجوه التلاميذ، يتحقق به حوار العقول، دون الحديث عن استعمالهم السليم للغة وتكوينهم الصلب الذي يعتبر من أهم الشروط الأساسية في التعليم الفلسفي؛ وأي تطور آخر يأتي بعد هذا يدخل في باب التجربة ويعفي من كل التجارب اللامسؤولة.
مثال واحد: لنأخذ المقطع SEQUENCE الأول من مقرر في البكالوريا التقنية G/F الطبيعة والتقنية والفن. من المؤكد أنه بساعتين فقط في الأسبوع ومع تلامذة قليلي التكوين يستغرق المدرس مدة طويلة في دروسه حول الطبيعة؛ ولن ينتهي منها أبدا، إذ يبدو وكأن السنة غير كافية ولا أحد يتعلم شيئا. إن هذه المسألة (الطبيعة وحدها) يجب أن تطرح في أعلى مستوى من التعليم الفلسفي كموضوع واحد للنقاش في برنامج سنوي؛ نفس الشيء بالنسبة للمفهومين الآخرين(التقنية والفن). ألا يمكن إيجاد موضوع تتوحد فيه المفاهيم الثلاثة ويجعل منها موضوعا واحدا. لنتخيل مدرسا يأتي منذ الدقيقة الأولى ويطلب من التلاميذ أن يكتبوا على السبورة: " إذا كان فن صنع البواخر يعتمد على الخشب، فإن هذا يؤثر على الطبيعة" (Physique II,199b). إن المسألة لا تستدعي قراءة أفلاطون وإعادة قراءة أرسطو لكي نعلم أن الباخرة لا تنمو كما ينمو الشجر، وأن أي مادة مصنوعة ليست من صنع جيل ولا من نموها كما هو الشأن بالنسبة للنبات أو الحيوان؛ هناك ما يدعو إلى التساؤل حقا، قد يكون التفكير عن الجيل وعن الصناعة أحد محاور التلاقي بين الطبيعة والتقنية في ظروف يميزها الجهل باللغة الفرنسية على مستوى القراءة والكتابة. يمكن إثارة مسألة اللغة (الخطاب) من أصعب المشاكل، إذ يصبح الدرس منصبا على شرح معاني الكلمات، ومحاولة رفع مستوى القسم إلى إتقان القواعد الأولية للغة واستيعاب المفاهيم ومعانيها؛ يمكن إتمام هذا المثال بافتراضنا أنه في حين من الأحيان قد يطلب المدرس من تلامذته أن يكتبوا على السبورة ملاحظة كانط الآتية: "إن كل ما نفعل ( نستطيع فعله) عندما  ندرك أن الشيء الذي نبحث عنه لا يسمى فنا"(Critique du jugement, S.43) يجب ألا تكون التقنية مجرد تطبيق للمعرفة، ذاك هو السؤال الجوهري المتعلق بهذا المفهوم، وفي الأخير يقول كانط: " العبقرية هي تلك الموهبة التي بواسطتها تعطي الطبيعة قوانين الفن" (Critique du jugement, S.46)؛ وهكذا فإن الإبداع في ميدان الفنون الجميلة لا ينحصر فقط في التراكيب أو البناء، بل تبدو العبقرية الفنية وكأنها في ارتباط مع الطبيعة؛ وسنحقق الكثير  إذا مكنا التلميذ من أن يستعمل ويبرز المعاني المختلفة لكلمة فن في" فنون المهنة" والفنون الجميلة.
هذا المثال لا يُؤخذ كنموذج مهم رغم ما تميز به من عالمية، لأن كل فرد له ثقافة خاصة تساهم في تشكل أسلوبه الشخصي. لقد أردنا فقط أن نبين إلى أي حد يكون مدرس الفلسفة حرا في بناء دروسه، وأن المقرر المطبق حاليا يجب اعتباره -على الأقل- نقطة ارتكاز، بدل أن يتخذ كعراقيل تمنع من تطبيق هذه الحرية. دعونا من الحديث عن الحمولة الزائدة SURCHARGE، لابد من الاستمتاع بحرية أكبر حتى لا تبتلعنا الأسئلة العديمة الأهمية، ونضيع في دوامات يكون المشهد الرئيس فيها متميزا (غير مرئيINVISIBLE)؛ إن ساعة واحدة قد تكفي أحيانا لتسليط الضوء على سؤال مركزي يختزن كل التقليد الفلسفي.
نرى أن الدرس الحقيقي يفترض أولا بأننا قد قمنا بالتدبير، حيث يجب تجنب العوائق التي خلقتها الطريقة الفصلية والتفلسف دون احتراس في الصمت المتحمس إضافة إلى مشاركة القسم؛ صمت متحمس لأننا نهتم بالشيء نفسه فقط، لكنه صمت خصب بالعبارات الشاهدة على الفكر ذاته. الدرس هو هذا الخطاب الذي يثير-بدون بلاغة- التأمل دون أن يحدث أي شيء بنفسه: فهو بكل بساطة يدفع العقل للتفكير. نعني أن هذا الخطاب هو خطاب ظاهري (سهل الإدراك)، يتطلب منا على الأقل أننا نستطيع بالتأكيد أن نقرأ ونكتب، ونمتلك -بدون شك- ما يجب أن نمتلكه من معجم علمي أو تقني؛ لكنه لا يعرض البتة ألغازا للحل؛ وكما يحب أن يقول البعض: إنه يحدث التفكير بكل بساطة.
يمكن أن ننجز بعد درس الرياضيات تمارين ونحل المشاكل التي تبقى من دونها المعطيات غامضة، ويمكن -بعد درس الفلسفة- أن نقرأ ونشرح النصوص، نكتب ونعالج الأسئلة؛ البحث (الإنشاء الفلسفي) الذي يكتبه التلميذ لم يوضع للمتفحص من أجل معرفة ما يستطيع التلميذ التفكير فيه، لكنه وضع فقط لمعرفة ما إذا كان التلميذ مكونا وقادرا على التفكير. الدرس الفلسفي يؤسس التلميذ الفيلسوف. يُعرف الفيلسوف الأكبر بأنه دائما تلميذ الحقيقة؛ وواضح أن الجدير بهذا الاسم في ثانوية ما -إذا كان موجودا- هو الأستاذ أولا، القسم هو مجال الحرية، مجال التفلسف بامتياز. فكيف نظن إذن، أن هنالك من الفلاسفة من لازال قادرا على انتظار أن نقول له ما يجب أن يفعله؟
 جاك ميجليوني
ترجمه عن النص الفرنسي : جواد بلكامل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق