الخميس، 21 نوفمبر 2013

هل يعني إقرار تاريخية الإنسان أنّه قد صار محكوما بمسار حتميّ مستقل عن وعي البشر و أفعالهم ؟

  الموضوع: هل يعني إقرار تاريخية الإنسان أنّه قد صار محكوما بمسار حتميّ مستقل عن وعي البشر و أفعالهم ؟
  العمل التحضيري:
v     تحديد سياقيّ لدلالة ألفاظ الموضوع:
         تاريخية الإنسان: تقيّد هذه العبارة نفي القول بوجود طبيعة إنسانية تحدّد بشكل ثابت ومتماثل الخصائص المميّزة للنّاس دون اعتبار لدور في تشكيل تلك الخصائص على نحو لا يفتأ يتغيّر عبر الزمن. و يعني ذلك أنّكل ما هو إنساني يتشكل حسب تشريطات اجتماعية تختلف من مجتمع إلى آخر و من زمن إلى لآخر ممّا يجعل منتصفا بالتّنوّع والحوّل دون توقّف. محكوما: لا يملك الإنسان بوعيه القدرة على تحديد واقعه الاجتماعي طبقا لمقاصد يختارها بنفسه، بل هو نتاج ظروف وعوامل موضوعية تتحكم في وعيه وممارسته وترسم ما سيكون عليه واقعه بمعزل عن إرادته. مسار حتمي: المسار هو الاتجاه الذي ستسلكه تطورات الواقع وما يفرضه ذلك من تغيرات دون أن يملك الأفراد القدرة على تحديده أو تغييره أو منعه مما يعني أنه ضروري تفرضه القوانين المادية التي تحكم حركة التاريخ فلا يبقى للإنسان سوى معرفته أو الخضوع له. مستقل عن وعي البشر وأفعالهم: إن العوامل التي تحتم اتجاه سير التاريخ منفصلة عما يكونه الناس من تصورات واعية وما يختارونه من مواقف وأفعال فلا تتأثر بها لأنها هي التي تحددها وتؤثر فيها.
التحرير:
 لا يصمد مفهوم الماهية كثيرا في مقاربة الإنسان عند معاينة ما يقترن به وجوده من تنوع وتغير. فعند الانطلاق من إحداثية المكان يتجلى التنوع الهائل القائم بين المجتمعات إن كان ذلك على مستوى اللغات أو العادات أو الأعراف أو المعتقدات والتصورات أو المؤسسات. وعند التحول عند إلى إحداثية الزمان يتجلى التغير الدائم الذي يسم كل ما هو إنساني من خلال التحول العميق الذي يطرأ على القيم وأنظمة الحكم والمعارف والإنتاج والغذاء واللباس واللهو... وفي ذلك تأكيد واضح أن الإنسان ليست له طبيعة بل هو تاريخ يجعل كل ما يميزه نتيجة تشرط اجتماعي يعبر عن خصوصية مجتمع وعصر. ولكن هل في الإقرار بتاريخية الإنسان ما يعني أنه قد صار محكوما بمسار حتمي يتحدد انطلاقا من عوامل موضوعية مستقلة عن وعيه وإرادته؟ أم أن في ذلك تعسفا يعمم نظام الطبيعة على الإنسان يلغي إمكانية التاريخ ذاته، إذ هل يبقى من معنى للتاريخ بما يحمله من تنوع واختلاف من دون تفاعل خلاّق بينه وبين الإنسان ينفتح به عل ممكنات جديدة؟
   لقد اكتشف الإنسان التاريخ لما توقف عن فهم ذاته ميتافيزيقيا كماهية تتعالى على اختلافات المكان وتحولات الزمان. عندئذ تبلورت تاريخية الإنسان باعتباره الكائن الذي لا يتحدد قبليا طبقا لطبيعة ترسم مسبقا ما سيكون عليه وجوده، بل انطلاقا من خصوصية المجتمع الذي ينتمي إليه وسياق العصر الذي ظهر فيه. إن هذا التحول هو ما عبر عنه الوجوديون منذ كياركيغارد في القرن التاسع عشر بقوله:«إن الوجود يسبق الماهية.» غير أن هذه العلاقات بالتاريخ لا ينبغي فهمها كما بين ذلك ماركس مثاليا بالنزول من سماء الوعي إلى أرض الواقع والإقرار بأن التاريخ ليس سوى نتاج لوعي الناس وما يبلورونه من تصورات وأهداف وممارسات. عندئذ تقود أفكار السياسيون والفلاسفة والمصلحين حركة المجتمع التي تغير التاريخ. فالتاريخية تعني أن وجود الإنسان وعيا وممارسة قد صار يتشكل انطلاقا من واقع اجتماعي يتحدد ويتغير حتميا طبقا لعوامل مادية مستقلة عن إرادته تحيل على درجة التطور الاقتصادي وما يفرزه ذلك من تناقض طبقي وصراع مصالح. فإنسان الحداثة لم يتغير وعيه بذاته وذوقه الجمالي ومنزلته السياسية انطلاقا من عبقرية ديكارت و رفائيل وميكال أنجلو وروسو ومنتسكيو بل انطلاقا من تحول اقتصادي وطبقي انتقل بالمجتمعات الغربية من إقطاعي يسيطر عليه النبلاء إلى اقتصاد رأسمالي يسيطر عليه البرجوازيون. وإن كان الأفراد غير الواعين بذلك فمرده الإيديولوجية السائدة التي تخفي تأثير المصالح كمحرك للتاريخ تحت قناع كونية الأفكار وحرية الإنسان. وبهذا تم طرد الإنسان من مركز التاريخ ليتوقف على الاعتقاد الزائف في أنه صانع له و يعترف أن التاريخ مسار حتمي يصنعه. لذا كتب ماركس:«ليس وعي الأفراد هو الذي يحدد وجودهم بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم.»
    إن هذا الفهم المادي للتاريخ وان كان قد حرر الإنسان من وهم مركزيته التي جعلته يعتقد أنه من يصنع تاريخه بحرية فإنه لا يخلو من مبالغة عندما يجعل من التاريخ مسارا حتميا قابلا للفهم من دون الإنسان. عندئذ ألا يؤدي فهم تاريخية الإنسان على هذا النحو إلى نفي تام للحرية ليكون الإنسان مجرد نتاج سلبي للتاريخ بلا قدرة على التأثير في مساره؟
     إن طرح السؤال لا يعني تخليا عن التاريخ من أجل العودة إلى مفهوم الطبيعة الإنسانية بل نقدا لهذا التصور للتاريخ كمسار حتمي لا مكان فيه للحرية. فالإنسان لا يكون إلا في سياق وضع اجتماعي تاريخي لا يختاره: إنه طبقته وجنسه وقوميته وطائفته وسكنه ودراسته وما يرتبط بذلك من علاقات متشابكة بالغير.غير أنّ هويّة الفرد و ما تتميّز به من خصوصيات ليست نتاجا آليا لتلك العوامل بل هي ما ينبثق عن تفاعله مع ذلك الوضع ليختار ممكنا من بين الممكنات التي يتيحها له فيبلور مشروعا يوجه حياته باتجاه المستقبل. وما ينطبق على الأفراد لا يستثني الشعوب فتاريخها ليس نتاجا آليا لوضعها الاقتصادي والطبقي بل لتفاعلها الواعي مع ذلك الوضع بلورة لمشروع يتميز بالجدة وقابل للتحقق موضوعيا في الواقع هو من ابتكار المفكرين والفلاسفة والمصلحين. فالتاريخ مسار منفتح على ممكنات لا تتبلور وتتحقق إلا بأفكار الناس وإرادتهم تعبيرا عن دور الحرية في توجيهه. فلا حتمية تنفي حرية الإنسان لتجعله نتاجا سلبيا لتاريخ أصمّ ولا حرية تنفي الحتمية لتجعل التاريخ نتاجا لاختيارات الإنسان الاعتباطية. إنها جدلية الذاتي والموضوعي كما عبر عنها سارتر في"نقد العقل الجدلي" لما كتب« يتميز الإنسان قبل كل شيء بمجاوزته لوضع ما وبما يتوصل إلى فعله انطلاقا ممّا فعله الغير به... إن ذلك هو ما نسميه المشروع.»
وكخلاصة لما سبق يمكن القول أن الإنسان هو كائن التاريخ ممّا يعني أن كل ما هو إنساني فيه ليس تعبيرا عن طبيعة قبلية تحدده بل هو ما يتشكل اجتماعيا في سياق مجتمع معين وعصر محدد. غير أن ذلك لا يعني نفيا لحرية الإنسان ليكون مجرد نتاج سلبي لمسار حتمي يخضع له بل إقرارا بقدرة الإنسان الذي يتأثر بواقع اجتماعي لم يختره أن يؤثر في ذلك الواقع انطلاقا من مشروع يختاره. فما يميز الإنسان هي قدرته على أن يحول الحتمية إلى حرية تفتح أفق الممكن.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق