الخميس، 21 نوفمبر 2013

الموضوع الأول: هل في اكتشاف زيف الوعي ما يعني أن الإنسان لا يمكنه أن يكون إلاّ غريبا عن ذاته؟


الموضوع الأول: هل في اكتشاف زيف الوعي ما يعني أن الإنسان لا يمكنه أن يكون إلاّ غريبا عن ذاته؟
العمل التحضيري:
v     النظر في صيغة السؤال:
هل في... ما يعني أنّ...؟ يثير السؤال إشكالا يتمثل فيما يمكن أن يترتب عن معطى هو: اكتشاف زيف الوعي من نتائج: أن لا يكون الإنسان إلاّ غريبا عن ذاته، أم أن تلك الغربة عن الذات نسبية بحيث تمثل المعرفة بزيف الوعي تحرير للإنسان كي يتمكن من معرفة ذاته بأكثر وضوح. هذا فضلا عمّا يثيره المعطى بدوره من إشكال: فهل الوعي زائف بإطلاق ممّا يجعله مرادفا للوهم على الدوام؟
v     العمل ألمفهومي:  تحليل لما هو معلن في صيغة السؤال/ تحديد سياقي لدلالة الألفاظ الموضوع:
ü      اكتشاف: معرفة الطابع الزائف للوعي باعتباره حقيقة منع الوهم العثور عليها.
ü      زيف الوعي: عجز الوعي بما يقدمه من تصورات وتبريرات عن تفسير العوامل الحقيقية المحددة للواقع الإنساني النفسي أو الاجتماعي وما يرتبط بذلك من دلالات تتيح إمكانية فهمها موضوعيا فيكون بذلك خادعا مضللا.
ü      ما يعني: ما يقدم معنى معقولا يمكن من فهم وضع الإنسان في ظل اكتشاف وعيه الزائف.
ü      الإنسان: محور الإشكال من حيث أن الوعي هو الصفة التي أعتقد طويلا أنها تشكل ماهيته وتمنحه القدرة على معرفة ذاته والتحكم في أفعاله يكتشف على اثر فلاسفة الظنة أن ذلك الوعي زائف بحيث يتم التساؤل عن الوضع الذي يمكن أن يترتب عن هذا الاكتشاف في شأنه: هل سيكون غريبا عن ذاته أم سيمكنه ذلك من معرفة أوضح تقربه من ذاته؟
ü      لا يمكنه أن يكون إلاّ: حصر يتعلق بالوضع الذي سيؤول إليه الإنسان في ظل اكتشاف زيف الوعي: غربة عن الذات/ أم معرفة أفضل بالذات؟
ü      غريبا عن ذاته: الانفصال عن الذات بحيث لا يتحدد الوجود الإنساني نفسيا: أفكار، أحاسيس، أفعال... أو اجتماعيا: مؤسسات، تصورات، قيم... انطلاقا من وعي الفرد أي مقاصده الإرادية بل انطلاقا من قوى مجهولة وخفية تحيل على غرائز الجسد أو مكبوتات اللاوعي أو صراع الطبقات.
v     المسلمات الضمنية:
ü      اعتبار زيف الوعي اكتشافا لا يقبل الجدال فيكون بذلك معطى مثبتا خارج إمكانية الشك.
ü      ضبابية في الإقرار بزيف الوعي إذ لا يتم الإعلان إن كان ذلك الزيف نسبيا أم مطلقا.
التحــريـــر
           قد تهتزّ الثقة في الوعي بفعل عديد الحالات النفسية والأفكار والتصورات والممارسات التي يدرك المرء مدى عجزه عن فهمها والتحكم فيها. فكثيرا ما يسيطر على المرء إحساس بالغيرة أو بالكراهية أو بالنشوة أو بالحب دون تفسير واضح لذلك، وكثيرا ما تغزو الفرد أبيات شعر أو حلول لمشكلات رياضية أو أنغام موسيقية دون أن يكون هو مبدعها، وكثيرا ما يكرر المرء مثلا أو حكايات أو يتزين بوشم أو بلباس دون أن يدرك مدلوله الحقيقي. عندئذ تترك تلك الثقة مكانها للشك في مصداقية الوعي باتجاه إثبات زيفه. ولكن هل في هذا الإثبات ما يشكل اكتشافا لحقيقة الوعي باعتباره زيفا؟ ولو صح مثل هذا الاكتشاف ألا يعني أن الإنسان لم يعد من الممكن بالنسبة إليه إلا أن يكون غريبا عن ذاته؟ أم أن ذلك سيكون إعلانا عن تحرير الإنسان من الثقة في الوعي ليبدأ عندئذ الاقتراب من ذاته والإقامة فيها؟
           لقد مثل الوعي تلك الصفة التي تجعل الإنسان قادرا على الانعكاف المباشر على ذاته ليعرف حالاته وأفعاله ويكون سيدا على أفكاره وقراراته فتم اعتباره إلى حدود القرن التاسع عشر مرادفا لليقين. غير أنه سرعان ما أصبح هدفا للتظنن الفلسفي عندما كشف نقد نيتشة أن جل ما هو إنساني يمكن أن يحدث دون الحاجة إلى حضوره. فالأفكار تتشكل والذكريات تتوارد والأحاسيس تتحدّد والقرارات تتضح انطلاقا من غرائز الجسد التي تعمل بحكمة خفية غير واعية تثبت أن العقل العظيم في الإنسان يكمن في الجسد وهذا التظنن توسع وتعمق عندما كشف فرويد أن الواقع النفسي يتحدد انطلاقا من آخر هو اللاوعي كمجال للمكبوت وللماضي الطفولي والآليات التي تفلت من سيادة الإرادة ومنطق العقل، وكشف ماركس أن الواقع الاجتماعي يتحدد من درجة تطور القوى الاقتصادية ومن التناقضات الطبقية التي يفرزها. عندئذ يلتقي ثلاثتهم حول تكذيب الثقة في الوعي ليكشف الإنسان مدى اغترابه عن ذاته. فالوعي قد ضلله وجعله يعتقد أنه سيد أفكاره ومواقفه والحال أنه نتاج لآخر خفي يجهله. فهو قد أضحى منفصلا عن نفسه لا يفهم ما هو الأقرب إلى ذاته ولا يسيطر عليه ففي الوقت الذي يعلن فيه أنه هو من يفكر وأنه واع بدلالات حالاته وأنه يوجه واقعه الاجتماعي طبقا لمقاصده يكون في الحقيقة الهو يفكر، وتكون دلالة حالاته زائفة على هامش حقيقتها غير الواعية المتوارية وتكون تلك المقاصد نتاجا لواقع اجتماعي مستقل عن إرادته. لذلك التقت أفكار ثلاثتهم للإقرار بغربة الإنسان عن ذاته بسبب أقنعة الوعي الزائفة فكتب نيتشة:" إن فكرة ما تخامرني متى أرادت هي ذلك وليس متى أردت أنا ذلك" وكتب فرويد:"لم يعد الأنا سيدا حتى في بيته." وكتب ماركس:"ليس وعي الأفراد هو الذي يحدد وجودهم بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم."
        لا جدال في أن نقد الوعي قد كشف زيفه لكن ما يبقى موضع جدال هو مدى هذا الزيف ونتيجته، فإلى أي حدّ يمكن الإقرار بزيف الوعي؟ وإلى أي حدّ يجعل زيف الوعي الإنسان غريبا عن ذاته؟
        إن اكتشاف زيف الوعي لا ينبغي أن يقود إلى التغافل عن قدرته على تجاوز الزيف وتحقيق المعرفة. إن هذا هو ما نبّه إليه ريكور بتمييزه بين الوعي المباشر والوعي التفكيري. فإذا كان الوعي المباشر ينخدع نفسيا واجتماعيا فينساق نحو وهم التفسيرات المباشرة والإيديولوجيات السائدة، فإن له القدرة على النقد وتجاوز الزيف. وهو ما يتجلى من خلال التحليل النفسي والمادية التاريخية ذاتهما إذ ببلورة منهج يمكن من معرفة الحياة النفسية وحركة التاريخ فإنهما يقدمان أدوات وعي أوضح. عندئذ يتضح أن غربة الإنسان عن ذاته لا يمكن أن تكون مطلقة بل هي على الدوام نسبية، فما يخفيه الوعي الزائف ليجعل الإنسان غريبا عن ذاته يكشفه المنهج (التحليل النفسي والمادية الجدلية) ويزيح الستار عنه فيصير إلى وعي أوضح بذاته يحدّ من تلك الغربة دون إنهائها تماما. فالوعي إذن ليس ثانويا يحوّل الإنسان إلى كائن سلبي تنتجه الظروف المستقلة عن إرادته بل هو في علاقة جدلية باللاوعي داخله وبالتاريخ خارجه تعبيرا عن قدرته على أن يحول ما صنعه الآخر به إلى منطلق لصنع ذاته وواقعه.
          ويبرر كل ما سبق القول إن القول إن اكتشاف زيف الوعي هو في أن اكتشاف لقدرته على تجاوز الزيف نحو المعرفة. ولئن كان ذلك يكشف للإنسان مدى غربته عن ذاته فهو يحرره ليعمل على أن يعود إلى ذاته ويعيها بأكثر وضوح كمهمة يتعين عليه الاضطلاع بها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق